على شيء إلى أن عاد التنوخيّ بين الصلاتين وهو جائع حاقن تعب، والزمان صائف، فقام إليه ودعا له وقال له: من أنت؟ قال: غلام فلان، قال: مالك؟ قال: شهادة، قال: له اقعد، ودخل فخلع ثيابه ودخل بيت الطهارة وأطال، والغلام يصيح: يا سيدنا أنا قاعد من ضحوة النهار إلى الساعة، فقال له: ويلك اصبر حتى أخرا، اصبر حتى أخرا، اصبر حتى أخرا، ثم توضأ ليصلّي فلم يهنّه، فقال: ادخل دخلت بطنك الشمس، فقد والله حيرتني وجننتني، فلما دخل أعطاه الرقعة فقرأها وقال: ويلك ما اسم هذا الملاح؟ فقال: الدابة يا سيدي، فقال: وأيّ شيء يقرّ به ويلك، فما أقف عليه أرى خمسة آلاف سابل ولا أدري ما بعده، فقال: يا سيدنا خمسة آلاف سابل سرقين، فقال له: وما السرقين؟ قال: خرا البقر والغنم، قال: يا ماصّ بظر أمه أنا شاهد الخرا؟! ونهض إليه وهو مغتاظ «١» ، فأخذ ينتف ذقنه «٢» ويضرب رأسه وفكّه إلى أن جرى الدم من فيه وأخرجه، وجاء إلى الرئيس رحمه الله فحدثه بما جرى عليه، فقال له يا مدبر «٣» الشهود يستشهدون في الخرا؟! أنت بالله أحمق. وجاءنا القاضي بعد العصر يشكو من جميلة ولزّه له وتوكّله به، ويعتذر مما جرّه جنونه عليه وما انتهى معه إليه، فضحكنا عليه ومرّت لنا ساعة طيبة بما أورده عليه.
قال «٤» : وحدثني أبو الحسين رضي الله عنه قال: حضر عندي القاضي أبو القاسم التنوخي يوما وقد هرب الكافي أبو عبد الله القنائي ببغداد وخرج إلى الأنبار، ونظر أبو سعد محمد بن الحسين بن عبد الرحيم، وكان التنوخي مائلا إلى بني عبد الرحيم ونابيا عن أضدادهم، فبدأ بذكر القنائي وكان لي صديقا بقبيح وزاد وخشّن وخبط، فغمضت عيني واستلقيت على مخدتي لعله يكفّ ويقطع، فعلم ذاك منّي فقفز إلي يحركني ويقول: والله ما أنت نائم ولكنك ما تحب أن تسمع في القنائي قبيحا، فقلت: ما أحب أن أسمع في القنائي ولا في غيره قبيحا، وقد تناومت لتقطع فلم تفعل، ومضى. وبلغ القنائيّ المجلس بعينه، وعاد القنائيّ إلى بغداد ناظرا، ودخل التنوخي إليه مسلما وخادما، فقال له: يا قاضي ما فعلت بك قبيحا يقتضي