فلم تطل الأيام حتى أدركت العميد منيته، وبلغ أبو القاسم أمنيته، وتولى العمل برأسه وعلا أمره وبعد صيته. وجمعت رسائله أقسام الحسن والجودة وازداد على الأيام تبحرا في الصناعة.
ويحكى أن «١» الحميد أمره ذات يوم بكتبة كتاب إلى بعض الأطراف، وركب متصيدا، واشتغل أبو القاسم عن ذلك لمجلس أنس عقده بين إخوان جمعهم عنده، فحين رجع الحميد من متصيده استدعى أبا القاسم وأمره باستصحاب الكتاب الذي رسم له كتبته لعرضه عليه، ولم يكن كتبه، فأجاب داعيه وقد نال منه الشراب ومعه طومار بياض أوهم أنه مكتوب فيه الكتاب المرسوم له، وقعد بالبعد عنه فقرأ عليه كتابا طويلا سديدا بليغا أنشأه في وقته وقرأه عن ظهر قلبه، وارتضاه الحميد وهو يحسب أنه قرأه من سواد مكتوبه وأمره بختمه، فرجع إلى منزله وحرر ما قرأه وأصدره على الرسم في أمثاله.
ومن عجيب «٢» أمره أنه كان أكتب الناس في السلطانيات، فإذا تعاطى الاخوانيات كان قصير الباع، وكان يقال إذا استعمل أبو القاسم نون الكبرياء تكلم من السماء، وكان في علو الرتبة في النثر وانحطاطه في النظم كالجاحظ. ورسائله كثيرة مدونة سائرة في الآفاق.
قال «٣» : ولما انتقل إلى جوار ربه أكمل ما كان شبابا وآدابا وغدت الكتابة لفراقه شعثاء، والبلاغة غبراء، أكبر فضلاء الحضرة رزيّته، وأكثروا مرثيته، فمن ذلك قول الهريمي الابيوردي من قصيدة:
ألم تر ديوان الرسائل عطّلت ... لفقدانه أقلامه ودفاتره
كثغر مضى حاميه ليس لسدّه ... سواه وكالكسر الذي عزّ جابره
ليبك عليه خطّه وبيانه ... فذا مات واشيه وذا مات ساحره