العراق يميلون إليه جدا ويتعصبون له، ويعدونه ريحانة الندماء ونارنج «١» الظرفاء ويعاشرون منه من تطيب عشرته وتكرم أخلاقه وتحسن أخباره وتسير أشعاره، ناظما حاشيتي البرّ والبحر وناحيتي الشرق والغرب. وبلغني أنه كان له غلام يسمى نسيما في نهاية الملاحة واللباقة، وكان يؤثره على سائر غلمانه ويختصه بتقريبه واستخدامه، فكتب إليه بعض من يأنس به:
هل عليّ لامه مدغمة ... لاضطرار الشعر في ميم نسيم
فوقع تحته: نعم ولم لا.
قال «٢» : ويحكى أنه كان من جملة القضاة الذين ينادمون الوزير المهلبي ويجتمعون عنده في الأسبوع ليلتين على اطراح الحشمة والتبسط في القصف والخلاعة، وهم ابن قريعة وابن معروف والقاضي الايذجي «٣» وغيرهم، وما منهم إلا أبيض اللحية طويلها، وكذلك كان المهلبي، فإذا تكامل الأنس وطاب المجلس ولذّ السماع وأخذ الطرب منهم مأخذه وهبوا ثوب الوقار للعقار، وتقلبوا في أعطاف العيش بين الخفة والطيش، ووضع في يد كلّ منهم طاس ذهب من ألف مثقال مملوءا شرابا قطر بليا وعكبريا فيغمس لحيته فيه بل ينقعها حتى تتشرب أكثره ثم يرشّ بها بعضهم على بعض، ويرقصون بأجمعهم وعليهم المصبغات ومخانق البرم، ويقولون كلما نكبر شر هرهر «٤» ، وإياهم عنى السريّ بقوله:
مجالس ترقص القضاة بها ... إذا انتشوا في مخانق البرم
وصاحب يخلط المجون لنا ... بشيمة حلوة من الشيم
تخضب بالراح شيبه عبثا ... أنامل مثل حمرة العنم
حتى تخال العيون شيبته ... شيبة عثمان ضرّجت بدم
فإذا أصبحوا عادوا إلى عاداتهم في التزمت والتوقر والتحفظ بأبهة القضاء وحشمة