الوضيع؟ أمس كنا نراه بمرقّعة يشحذ، فقال أبي: وما يضعه من أن الزمان عضه ثم ساعده؟! كل كبير إنما كان صغيرا أولا، والفقر ليس بعار إذا كان الإنسان فاضلا في نفسه، وأهل العلم خاصة لا يعيبهم ذلك، وأنا أعتقد أن من كان صغيرا فارتفع أو فقيرا فاستغنى أفضل ممن ولد في الغنى أو في الجلالة، لأن من ولد في ذلك إنما يحمل «١» على غيره فلا حمد له هو خاصة فيه، ومن لم يكن له فكان فكأنما بكدّه «٢» وصل إلى ذلك، فهو أفضل ممن وصل إليه ميراثا أو بجد غيره وكدّ سواه.
حدّث أبو علي المحسن بن أبي القاسم علي بن محمد بن داود التنوخي، حدثني أبي قال «٣» : سمعت أبي رحمه الله يوما ينشد، وسني إذ ذاك خمس عشرة سنة، بعض قصيدة دعبل بن علي الطويلة التي يفتخر فيها باليمن ويعدد مناقبهم ويرد على الكميت فيها فخره بنزار، وأولها:
أفيقي من ملامك يا ظعينا ... كفاك اللوم مرّ الأربعينا
وهي نحو ستمائة بيت، فاشتهيت حفظها لما فيها من مفاخر اليمن لأنهم أهلي، فقلت: يا سيدي تخرجها إليّ حتى أحفظها، فدافعني فألححت عليه فقال: كأني بك تأخذها فتحفظ منها خمسين بيتا أو مائة بيت ثم ترمي بالكتاب وتخلقه عليّ، فقلت:
ادفعها إليّ، فأخرجها وسلّمها إليّ، وقد كان كلامه أثر فيّ، فدخلت حجرة لي كانت برسمي من دار أبي «٤» فخلوت فيها ولم أتشاغل يومي وليلتي بشيء غير حفظها، فلما كان السّحر كنت قد فرغت منها من جميعها وأتقنتها، فخرجت إليه غدوة على رسمي فجلست بين يديه فقال: هي، كم حفظت من القصيدة؟ فقلت قد حفظتها بأسرها، فغضب وقدّر أني قد كذبته وقال: هاتها فأخرجت الدفتر من كمي فأخذه وفتحه ونظر فيه وأنا أنشد إلى أن مضيت في أكثر من مائة بيت، فصفح منها عدة أوراق وقال: أنشد من هاهنا، فأنشدت مقدار مائة بيت آخر، فصفح إلى أن قارب آخرها