بها رجل من أهل الكرخ وله ابن عمره حينئذ عشر سنين أو نحوها، وكان يدخل داري بلا إذن ويمزح مع غلماني وأهب له في الأوقات الدراهم والثياب كما يفعل الناس بأولاد غلمانهم، ثم خرجت عن الكرخ ورحلت عنها ولم أعرف للبوّاب ولا لابنه خبرا، ومضت السنون، وأنفذني أبو عبد الله البريدي من واسط برسالة إلى ابن رائق فلقيته بدير العاقول، ثم انحدرت أريد واسطا فقيل لي إن في الطريق لصا يعرف بالكرخي مستفحل الأمر، وكنت خرجت بطالع اخترته على موجب تحويل مولدي لتلك السنة، فلما عدت من دير العاقول خرج علينا اللصوص في سفن عدّة بسلاح شاك في نحو مائة رجل، وهم كالعسكر العظيم، وكان معي غلمان يرمون بالنشاب، فحلفت أنّ من رمى منهم سهما ضربته إذا رجعت إلى المدينة مائتي مقرعة «١» ، وذلك أنني خفت أن يقتل أحد منهم فلا يرضون إلا بقتلي، وبادرت فرميت بجميع ما كان معي ومع الغلمان من السلاح في دجلة واستسلمت طلبا لسلامة النفس، وجلست أفكر في الطالع الذي خرّجت «٢» ، فإذا ليس مثله مما يوجب عندهم قطعا، والناس قد أدبروا إلى الشطّ وأنا في جملتهم، وجعلوا يفرغون السفن وينقلون جميع ما فيها من الأمتعة إلى الشاطىء وهم يضربون ويقطعون بالسيوف، فلما انتهى الأمر إليّ جعلت أعجب من حصولي في مثل ذلك وأرى الطالع لا يوجبه، فبينا أنا كذلك وإذا بسفينة رئيسهم قد دنت مني وطرح عليّ كما صنع في سائر السفن ليشرف على ما يؤخذ، فحين رآني زجر أصحابه عنّي ومنعهم من أخذ شيء من سفينتي، وصعد بمفرده إليّ وجعل يتأملني، ثم أكبّ على يديّ يقبّلهما وهو متلثم، فارتعت وقلت: يا هذا ما شأنك؟
فأسفر لثامه وقال: أما تعرفني يا سيدي؟ فتأملته فلجزعي لم أعرفه فقلت: لا والله، فقال: بلى أنا عبدك ابن فلان الكرخي بوّابك هناك، وأنا الصبيّ الذي تربيت في دارك، قال: فتأملته فعرفته إلا أن اللحية قد غيرته في عيني، فسكن روعي قليلا وقلت: يا هذا كيف بلغت إلى هذه الحال؟ فقال: يا سيدي نشأت فلم أتعلم غير معالجة السلاح، وجئت إلى بغداد أطلب الديوان فما قبلني أحد، وانضاف إليّ هؤلاء