الحدثان متماديا، طمعت في السكوت تجلدا، وانتحلت القناعة رياضة، وتألفت شارد حرصي متوقفا، وطويت منشور أملي متنزها، وجمعت شتيت رجائي ساليا، وادّرعت الصبر مستمرا، ولبست العفاف محمودا «١» ، واتخذت الانقباض صناعة، وقمت بالعلاء مجتهدا، هذا بعد أن تصفحت الناس فوجدتهم أحد رجلين: رجلا إن نطق نطق عن غيظ ودمنة، وإن سكت سكت عن ضغن وإحنة، ورجلا إن بذل كدّر بامتنانه بذله، وإن منع حسّن باحتياله بخله، فلم يطل دهري في اثنائه متبرما «٢» بطول الغربة، وشظف العيش، وكلب الزمان، وعجف المال، وجفاء الأهل، وسوء الحال، وعادية العدوّ، وكسوف البال، منحرفا «٣» من الحنق على لئيم لا أجد مصرفا عنه، منقطعا من الشوق إلى كريم لا أجد سبيلا إليه، حتى لاحت لي غرة الأستاذ فقلت: حلّ بي الويل، وسال بي السيل، أين أنا عن ملك الدنيا، والفلك الدائر بالنعمى، أين أنا من مشرق الخير ومغرب الجميل؟ أين أنا عن بدر البدور وسعد السعود؟ أين أنا عمن يرى البخل كفرا صريحا والافضال دينا صحيحا؟ أين أنا عن سماء لا تفتر عن الهطلان، وعن بحر لا يقذف إلا باللؤلؤ والمرجان؟ أين أنا عن فضاء لا يشقّ غباره، وعن حرم لا يضام جاره؟ أين أنا عن منهل لا صدر لفراطه ولا منع لوراده؟ أين أنا عن ذوب لا شوب فيه، وعن صدد لا حدد دونه؟ بل أين أنا عمن أتى بنبوّة الكرم، وإمامة الافضال، وشريعة الجود، وخلافة البذل، وسياسة المجد بشيمة مشيمة البوارق، ونفس نفيسة الخلائق؟ أين أنا عن الباع الطويل، والأنف الأشم، والمشرب العذب، والطريق الأمم؟ لم لا أقصد بلاده؟ لم لا أقتدح زناده؟ لم لا أنتجع جنابه وأرعى مراده؟ لم لا أسكن ربعه؟ لم لا أستدعي نفعه؟ لم لا أخطب جوده وأعتصر عنقوده «٤» ؟ لم لا أستمطر سحابه؟ لم لا أستسقي ربابه؟ لم لا أستميح نيله وأستسحب ذيله؟ ولا أحجّ كعبته وأستلم ركنه؟ لم لا أصلي إلى مقامه مؤتما بامامه؟ لم لا أسبح بثنائه «٥» متقدسا، لم لا أحكّم في حال:
فتى صيغ من ماء البشاشة «٦» وجهه ... فألفاظه جود وأنفاسه مجد