أثيرة، وإذ كان هذا الكتاب لا يتسع لأوصافه جميعا، وكان الوقت يذهب بحلاوة ذكر محاسنه سريعا، رأيت من المشقة والاتعاب، التصدي لجميع فضائله والاستيعاب، فاعتمدت على القول مجملا لا مفصّلا، وضربة لا مبوبا فأقول:
إن الله عز وجل عني بخلقته فأحسن خلقه وخلقه وعقله وذهنه وذكاءه، وجعل همته في العلوم ومعالي الأمور، فقرأ الأدب وأتقنه، ثم درس الفقه فأحسنه، ونظم القريض فجوده، وأنشأ النثر فزينه، وقرأ حديث الرسول وعرف علله ورجاله وتأويله وفروعه وأصوله، وهو مع ذلك قلق البنان، جواد بما تحوي اليدان، وهو كاسمه كمال في كلّ فضيلة، لم يعتن بشيء إلا وكان فيه بارزا، ولا تعاطى أمرا إلا وجاء فيه مبرّزا، مشهور ذلك عنه لا يخالف فيه صديق ولا يستطيع دفاعه عدو. وأما قراءته للحديث في سرعته وصحة إيراده وطيب صوته وفصاحته فهو الغاية التي أقرّ له بها كلّ من سمعها، فانه يقرأ الخطّ العقد كأنه يقرأ من حفظه، وأما خطه في التجويد والتحرير والضبط والتقييد فسواد مقلة لأبي عبد الله ابن مقلة، وبدر ذو كمال عند علي بن هلال:
خلال الفضل في الأمجاد فوضى ... ولكنّ الكمال لها كمال
وإذا كان التام من خصائص عالم الغيب، وكان الإنسان لا بد له من عيب، فعيبه لطالب العنت والشين، أنه يخاف عليه من إصابته العين، هذا مع العفاف والزمت، والوقار وحسن السمت، والجلال المشهور، عند الخاص والجمهور:
قاد الجيوش لسبع عشرة حجة ... ولداته عن ذاك في أشغال
سألته أدام الله علوه عن مولده فقال لي: ولدت في ذي الحجة سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، قال: فلما بلغت سبعة أعوام حصلت إلى المكتب، فأقعدت بين يدي المعلم فأخذ يمثّل لي كما يمثّل للأطفال ويمد خطا ويرتب عليه ثلاث سينات، فأخذت القلم، وكنت قد رأيته وقد كتب «بسم» ومدّ مدته، ففعلت كما فعل، وجاء ما كتبته قريبا من خطه، فتعجب المعلم فقال لمن حوله: لئن عاش هذا الطفل لا يكون في العالم أكتب منه. وصحّت لعمري فراسة المعلم فيه فهو أكتب من كلّ من تقدمه بعد ابن البواب بلا شك.