للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فارس وأخذ عنه جميع ما عنده واستنفد علمه. وورد حضرة الصاحب ابن عباد فتزود من ثمارها وحسن آثارها، ثم قدم جرجان وأقام بها مدة على مداخلة الإسماعيلية والتعيش في أكنافهم، واختصّ بالدهخداه [١] أبي سعد محمد بن منصور، ونفقت بضاعته لديه، وتوفر حظه من عادته المعروفة في إسداء الإفضال على الأفاضل. ولما أراد ورود نيسابور أعانه بما سيره إليها فوردها في سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة ونشر بها بزّه وأظهر طرزه، وأملى أربعمائة مقامة [٢] نحلها أبا الفتح الاسكندري في الكدية وغيرها، وضمنها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين. ثم شجر بينه وبين الأستاذ أبي بكر الخوارزمي ما كان سببا لهبوب ريح الهمذاني وعلوّ أمره، إذ لم يكن في الحساب أن أحدا من العلماء ينبري لمساجلته، فلما تصدى الهمذاني لمباراته وجرت بينهما مقامات ومبادهات ومناظرات، وغلّب قوم هذا وغلّب آخرون ذاك، طار ذكر الهمذاني في الآفاق، وشاع ذكره في الأفّاق، ودرّت له أخلاف الرزق، فلما مات الخوارزميّ خلا له الجوّ وتصرفت به أحوال جميلة وأسفار كثيرة، ولم يبق من بلاد خراسان وسجستان وغزنة بلدة إلا دخلها وجنى ثمارها، ولا ملك له ولا وزير إلا واستمطر بنوئه وسرى في ضوئه، فحصلت له نعمة حسنة وثروة جميلة، وألقى عصاه بهراة فاتخذها دار قراره، وصاهر بها أبا علي الحسين بن محمد الخشنامي، وهو الفاضل الكريم الأصيل، وانتظمت أحواله بمصاهرته، واقتنى بمعونته ضياعا فاخرة، وحين بلغ أشدّه وأربى على أربعين سنة ناداه الله فلباه، وفارق دنياه في سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة.

وهذا أنموذج من رسائله:

فصل [٣] من رقعة كتبها إلى الخوارزمي، وهو أول ما كاتبه به: أنا لقرب الأستاذ: كما طرب النشوان مالت به الخمر [٤] .


[١] الدهخداه: سيد القرية أو رئيسها.
[٢] في هذا العدد مجال للنظر، إذ ليس لدينا منها إلا أربعون، ومنهم من جعلها إحدى وخمسين مقامة (بعدد رسائل إخوان الصفا الإسماعيلية الذين كان البديع يلابسهم ويداخلهم في جرجان) .
[٣] اليتيمة ٤: ٢٥٩ ورسائل البديع: ١٢٨.
[٤] من الواضح أنه يضمن رسالته أشطارا من الشعر، وقوله: «كما انتفض العصفور ... » عجز بيت، وصدره: وإني لتعروني لذكراك هزة.

<<  <  ج: ص:  >  >>