للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولا ترفع له حجب الأسماع، وتوسّع فيها، إذ صرّف ألفاظها ومعانيها، في وجوه مختلفة، وضروب منصرفة، عارضه بأربعمائة مقامة في الكدية تذوب ظرفا وتقطر حسنا، لا مناسبة بين المقامتين لفظا ولا معنى، عطف مساجلتها، ووقف مناقلتها، بين رجلين سمّى أحدهما عيسى بن هشام والآخر أبا الفتح الاسكندري، وجعلهما يتهاديان الدرّ ويتنافثان السحر، في معان تضحك الحزين، وتحرّك الرصين، وتطالع منها كل طريفة، ويوقف منها على كل لطيفة، وربما أفرد بعضهما بالحكاية، وخصّ أحدهما بالرواية.

[وقد ذكره] أبو نصر عبد الرحمن بن عبد الجبار الفامي في «تاريخ هراة» من تأليفه، وأنشد للبديع:

خرج الأمير ومن وراء ركابه ... غيري وعزّ عليّ أن لم أخرج

أصبحت لا أدري أأدعو طغمشي ... أم يكتليني أم أصيح بنذغجي

وبقيت لا أدري أأركب أبرشي ... أم أدهمي أم أشبهي أم ديزجي

يا سيد الأمراء ما لي خيمة ... إلا السماء إلى ذراها ألتجي

كتفي بعيري إن ظعنت، ومفرشي ... كمّي، وجنح الليل مطرح هودجي

وكتب بديع الزمان إلى مستميح عاوده مرارا وقال له: لم لا تديم الجود بالذهب، كما تديمه بالادب؟ فكتب البديع [١] : عافاك الله، مثل الإنسان في الإحسان، مثل الأشجار في الإثمار، وسبيل من ابتدأ بالحسنة، أن يرفّه إلى السنة، وأنا كما ذكرت لا أملك عضوين من جسدي، وهما فؤادي ويدي، أما اليد فتولع بالجود، وأما الفؤاد فيتعلق بالوفود [٢] ، ولكنّ هذا الخلق النفيس، لا يساعده الكيس، وهذا الخلق الكريم، لا يحتمله الغريم، ولا قرابة بين الأدب والذهب، فلم جمعت بينهما؟ والأدب لا يمكن ثرده في قصعة، ولا صرفه في ثمن سلعة، قد جهدت جهدي بالطباخ أن يطبخ لي من جيمية الشماخ [٣] لونا فلم يفعل، وبالقصّاب أن يذبح


[١] اليتيمة: ٢٦٢ والرسائل: ٢٢١.
[٢] ر: بالرفود.
[٣] جيمية الشماخ هي التي يقول فيها:
وأشعث قد قدّ السفار قميصه ... يجرّ شواء بالعصا غير منضج

<<  <  ج: ص:  >  >>