ثم غرّب فخرج إلى مصر وكتب في طريقه من المشايخ بأجناد الشام والسواحل والثغور وأكثر منها. ثم صار إلى الفسطاط في سنة ثلاث وخمسين ومائتين، وكان بها بقية من الشيوخ وأهل العلم، فأكثر عنهم الكتبة من علوم مالك والشافعي وابن وهب وغيرهم، ثم عاد إلى الشام، ثم رجع إلى مصر، وكان بمصر وقت دخوله إليها أبو الحسن علي بن سراج المصري، وكان متأدبا فاضلا في معناه، وكان من دخل الفسطاط من أهل العلم إذا ورد لقيه وتعرض له، فوافى أبو جعفر إلى مصر وبان فضله عند وروده إليها في القرآن والفقه والحديث واللغة والنحو والشعر، فلقيه أبو الحسن ابن سراج فوجده فاضلا في كلّ ما يذاكره به من العلم، ويجيب في كلّ ما يسأله عنه، حتى سأله عن الشعر فرآه فاضلا بارعا فيه، فسأله عن شعر الطرمّاح وكان من يقوم به مفقودا في البلد، فإذا [هو] يحفظه، فسئل أن يمليه حفظا بغريبه فعهدي به وهو يمليه عند بيت المال في الجامع. وكان قد لقي بمصر أبا إبراهيم إسماعيل بن إبراهيم المزني، فتكلما في أشياء منها الكلام في الاجماع، وكان أبو جعفر قد اختار من مذاهب الفقهاء قولا اجتهد فيه بعد أن كان ابتدأ بالفقه في مدينة السلام على مذهب الشافعي رضي الله عنه، وكتب كتابه عن الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني عنه، ودرسه في العراق على جماعة منهم أبو سعيد الاصطخري وغيره، وهو حدث قبل خروجه إلى الفسطاط.
وقال أبو بكر ابن كامل: خرج إلينا ليلة أبو بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد ونحن نقرأ عليه كتاب قراءة أبي عمرو بن العلاء الكبير، فوجدنا نتناظر في بسم الله الرحمن الرحيم مع بعض إخواننا من الشافعيين، وهل هي من فاتحة الكتاب أم لا، وكان المجلس حفلا بجماعة من الفقهاء من أصحاب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأصحابنا، وكان يسميني في بعض الأوقات لقراءتي عليه الكسائي، فقال لي:
كسائي فيم أنتم؟ فعرّفته، فقال: وعلى مذهب من تتفقه؟ فقلت: على مذهب أبي جعفر الطبري، فقال: رحم الله أبا جعفر حدّثنا بحديث نوح بن أبي بلال عن سعيد المقبري عن أبي هريرة في بسم الله الرّحمن الرّحيم، ثم أخذ أبو بكر ابن مجاهد في مدح أبي جعفر الطبري وقال: بلغنا أنه التقى مع المزني فلا تسأل كيف استظهاره عليه والشافعيون حضور يسمعونه، ولم يذكر مما جرى بينهما شيئا.