فتضاحك الجماعة وانصرفوا، فلما كان بعد شهر أرسلوا اليه شخصا آخر فسأله عن الهرطنق فقال: أليس قد سئلت عن هذه المسألة منذ كذا وكذا؟ ثم قال: هو كذا وكذا كما أجاب أولا، قال القوم: فما ندري من أيّ الأمرين نعجب، من حفظه إن كان علما، أم من ذكائه إن كان كذبا، فإن كان علما فهو اتساع عجيب، وإن كان كذبا فكيف تناول ذكاؤه المسألة وتذكر الوقت بعد أن مرّ عليه زمان فأجاب بذلك الجواب بعينه؟.
وحكي أن «١» معز الدولة بن بويه قلد شرطة بغداد غلاما تركيا من مماليكه اسمه خواجا فبلغ ذلك أبا عمر الزاهد وكان يملي كتابه «اليواقيت» في اللغة فقال للجماعة في مجلس الاملاء: اكتبوا ياقوتة خواجا، الخواج في أصل اللغة الجوع، ثم فرّع على هذا بابا وأملاه عليهم فاستعظموا كذبه وتتبعوه، فقال أبو علي الحاتمي- وكان من أصحابه- أخرجنا في «أمالي» الحامض عن ثعلب عن ابن الأعرابي الخوارج الجوع.
وحكى «٢» رئيس الرؤساء أبو القاسم علي بن الحسن عن من حدثه أن أبا عمر الزاهد كان يؤدب ولد القاضي أبي عمر محمد بن يوسف، فأملى على الغلام نحوا من ثلاثين مسألة في النحو ذكر غريبها وختمها ببيتين من الشعر، وحضر أبو بكر ابن دريد وأبو بكر الأنباري وأبو بكر ابن مقسم العطار المقرىء عند القاضي أبي عمر، فعرض عليهم تلك المسائل فما عرفوا منها شيئا، وأنكروا الشعر، فقال لهم القاضي: ما تقولون فيها؟ فقال ابن الأنباري: أنا مشغول بتصنيف «مشكل القرآن» ولست أقول شيئا، وقال ابن مقسم مثل ذلك واعتذر باشتغاله بالقراءات، وقال ابن دريد: هذه المسائل من موضوعات أبي عمر الزاهد، ولا أصل لشيء منها في اللغة، وانصرفوا، فبلغ ذلك أبا عمر فاجتمع بالقاضي وسأله إحضار دواوين جماعة من قدماء الشعراء عينهم، ففتح القاضي خزانته وأخرج له تلك الدواوين، فلم يزل أبو عمر الزاهد يعمد إلى كلّ مسألة منها ويخرج لها شاهدا من تلك الدواوين ويعرضه على القاضي حتى استوفى جميع المسائل، ثم قال: وهذان البيتان أنشدهما ثعلب بحضرة القاضي