أباه- وكان أبو زيد يميل إليها ويحبّها لأجل مولده بها ونزعه إليها حبّ المولد ومسقط الرأس والحنين إلى الوطن الأول، ولذلك لما حسنت حاله ودعته نفسه إلى اعتقاد الضياع والأسباب، والنظر للأولاد والأعقاب، اختارها من قرى بلخ، فاعتقد بها ضيعته، ووكل بها همته، وصرف إلى اتخاذ العقد بها عنايته. وقد كانت تلك الضياع بعد باقية إلى قريب من هذا الزمان في أيدي أحفاده وأقاربه بها وبالقصبة، ثم إنهم- كما أقدّر- قد فنوا وانقرضوا في اختلاف هذه الحوادث ببلخ وغيرها من سائر البلدان، فلا أحسب أنه بقي منهم نافخ ضرم ولا عين تطرف هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً
(مريم: ٩٨) سمعت أن الأمير أحمد بن سهل بن هاشم كان ببلخ، وعنده أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود الكعبي وأبو زيد ليلة من الليالي وفي [يد] الأمير عقد لآلىء نفيسة ثمينة تتلألأ كاسمها ويتوهج نورها، وكان حمل إليه من بعض بلاد الهند حين افتتحت، فأفرد الأمير منها عشرة أعداد وناولها أبا القاسم، وعشرة أعداد أخر وناولها أبا زيد، وقال: هذه اللآلىء في غاية النفاسة، فأجببت أن أشرككما فيها ولا أستبدّ بها دونكما، فشكرا له ذلك. ثم إنّ أبا القاسم وضع لآلئه بين يدي أبي زيد وقال: إن أبا زيد من هو مهتمّ بشأنهنّ فأردت أن أصرف ما برّني به الأمير إليه لينتظم في عقدهن، فقال الأمير: نعمّا فعلت ورمى بالعشرة الباقية إلى أبي زيد وقال: خذها فلست في الفتوة بأقلّ حظا ولا أوكس سهما من أبي القاسم، ولا تغبننّ عنها فانها ابتيعت للخزانة من الفيء بثلاثين ألف درهم، فاجتمعت الثلاثون عند أبي زيد برمّتها، وباعها بمال جليل، وصرف ثمنها إلى الضيعة التي اشتراها بشامستيان.
قال: وكان أبو زيد كما ذكر أبو محمد الحسن الوزيري- وكان رآه واختلف إليه- ربعة نحيفا مصفارّا أسمر اللون جاحظ العينين فيهما تأخر وقبل، بوجهه آثار جدريّ، صموتا سكّيتا ذا وقار وهيبة. وقد وصفه أبو علي أحمد المنيري الزيادي في رسالته التي كتبها إليه وأراد أن يهدم بنيانه، ويضع شانه، ويوهي أركانه، فردّ عليه أبو زيد في جوابها ما ألبسه الشّنار والصّغار، ونبّه العالم أنّ حظه من العلوم حظّ منكود، وأنه فيما أجرى له من كلامه غير سديد، قرأت على أبي محمد الوزيري كلتا الرسالتين فزعم أنه قرأهما عليهما- أعني أبا زيد والمنيري كليهما- فذكر المنيري في رسالته في جملة