للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ما هجّنه به: و «إنك لا تصلح إلا أن تكون زامرا أو مغبّرا [١] أو مخنكرا» ، فدلّ هذا الكلام على أنه كان جاحظ العين أشدق مع قصر قامة ودنّو هامة.

قال: ثم حدّثت أنه كان في عنفوان شبابه وطراءة زمانه وأول حداثته ومائه دعته نفسه إلى أن يسافر ويدخل إلى أرض العراق ويجثو بين يدي العلماء، ويقتبس منهم العلوم، فتوجّه إليها راجلا مع الحاجّ، وأقام بها ثماني سنين، وجازها فطوّف البلدان المتاخمة لها، ولقي الكبار والأعيان، وتتلمذ لأبي يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي وحصّل من عنده علوما جمة، وتعمّق في علم الفلسفة، وهجم على أسرار علم التنجيم والهيئة، وبرز في علم الطب والطبائع، وبحث عن أصول الدين أتمّ بحث وأبعد استقصاء حتى قاده ذلك إلى الحيرة وزلّ به عن النهج الأوضح، فتارة كان يطلب الإمام، ومرّة كان يسند الأمر إلى النجوم والأحكام، ثم انه لما كتبه الله في الأول من السعداء، وحكم بأنه لا يتركه يتسكّع [٢] في ظلمات الأشقياء، بصّره أرشد الطرق وهداه لأقوم السبل، فاستمسك بعروة من الدين وثيقة، وثبت من الاستقامة على بصيرة وحقيقة؛ فذكر أبو الحسن الحديثي قال: كان أبو بكر البكري فاضلا خليعا لا يبالي ما قال، وكان يحتمل عنه لسنّه [٣] قال: أذكر إذ كنا عنده وقد قدّمت المائدة وأبو زيد يصلّي، وكان حسن الصلاة، فضجر البكريّ من طول صلاته، فالتفت إلى رجل من أهل العلم يقال له محمد الخجندي فقال: يا أبا محمد ريح الإمامة بعد في رأس أبي زيد، فخفّف أبو زيد الصلاة وهما يضحكان، قال أبو الحسن: فلم أدر ما ذلك، حتى سألت لا أدري الخجندي أو أبا بكر الدمشقي، فقال أحدهما: اعلم أنّ أبا زيد في أول أمره كان خرج في طلب الإمام إلى العراق، إذ كان قد تقلّد مذهب الإمامية، فعيّره البكريّ بذلك.

قال: وكان حسن الاعتقاد، ومن حسن اعتقاده انه كان لا يثبت من علم النجوم الأحكام، بل كان يثبت ما يدلّ عليه الحسبان. ولقد جرى ذكره رحمه الله في مجلس الامام أبي بكر أحمد بن محمد بن العباس البزار، وهو الامام ببلخ والمفتي بها، فأثنى عليه خيرا وقال: إنه كان قويم المذهب حسن الاعتقاد، لم يقرف بشيء في ديانته كما


[١] م: مغيرا.
[٢] م: يتبلغ وصوبته بحسب المعنى.
[٣] الوافي: لعلوّ سنه.

<<  <  ج: ص:  >  >>