للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الفراء للاتصال بالمأمون كان يتردّد إلى الباب، فلما كان ذات يوم بالباب جاء ثمامة بن الأشرس المتكلم المشهور، قال: فرأيت صورة أديب وأبهة أدب، فجلست إليه وفاتشته عن اللغة فوجدته بحرا، وعن النحو فشاهدته نسيج وحده، وعن الفقه فوجدته فقيها عارفا باختلاف القوم، وفي النجوم ماهرا، وبالطب خبيرا، وبأيام العرب وأخبارها وأشعارها حاذقا، فقلت له: من تكون وما أظنك إلا الفراء، فقال: أنا هو، قال: فدخلت فأعلمت أمير المؤمنين بمكانه، فاستحضره وكان سبب اتصاله به.

وقال أبو بريدة الوضاحي «١» : أمر أمير المؤمنين المأمون الفراء أن يؤلف ما يجمع به أصول النحو وما سمع من العرب، فأمر أن تفرد له حجرة من حجر الدار ووكل بها جواري وخدما للقيام بما يحتاج إليه حتى لا يتعلق قلبه ولا تتشوف نفسه إلى شيء، حتى إنهم كانوا يؤذنونه بأوقات الصلاة، وصير له الوراقين وألزمه الأمناء والمنفقين، فكان الوراقون يكتبون حتى صنف «كتاب الحدود» وأمر المأمون بكتبه في الخزائن، وبعد أن فرغ من ذلك خرج إلى الناس وابتدأ يملي «كتاب المعاني» وكان وراقيه سلمة بن عاصم وأبو نصر ابن الجهم. قال أبو بريدة: فاردنا أن نعدّ الناس الذين اجتمعوا لإملاء «كتاب المعاني» فلم نضبط عددهم، ولما فرغ من إملائه خزنه الوراقون عن الناس ليتكسبوا به وقالوا: لا نخرجه لأحد إلا لمن أراد أن ننسخه له على أن يكون عن كل خمسة أوراق درهم، فشكا الناس إلى الفراء، فدعا الوراقين وكلمهم في ذلك وقال: قاربوا الناس تنفعوا وتنتفعوا، فأبوا عليه، فقال: سأريكم، وقال للناس: إني أريد ان أملي كتاب معان أتمّ شرحا وأبسط قولا من الذي أمليت قبلا وجلس يملي، فأملى في الحمد مائة ورقة، فجاء الوراقون إليه وقالوا: نحن نبلّغ الناس ما يحبون، فنسخوا كلّ عشرة أوراق بدرهم.

قال أبو بكر ابن الأنباري: لو لم يكن لأهل بغداد والكوفة من علماء العربية إلا الكسائي والفراء لكان لهم بهما الافتخار على جميع الناس إذ انتهت العلوم إليهما.

وكان يقال الفراء أمير المؤمنين في النحو.

توفي أبو زكريا الفراء في طريق مكة سنة سبع ومائتين وقد بلغ ثلاثا وستين سنة.

<<  <  ج: ص:  >  >>