ثم تأوه ثلاث مرات وتلا قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ
(هود ١٠٣- ١٠٥) ثم صاح وبكى بكاء شديدا، وطرح وجهه على الأرض زمانا، ثم رفع رأسه ومسح وجهه وقال: سبحان من تكلّم بهذا الكلام في القدم، سبحان من هذا كلامه، وسكت وسكن، فصبرت عليه ساعة ثم سلّمت عليه فردّ عليّ السلام، فقال لي: يا أبا الفتح متى أتيت؟ فقلت: الساعة، فأمرني بالجلوس فجلست وقلت: يا سيدي أرى في وجهك أثر غيظ، فقال: لا يا أبا الفتح، بل أنشدت شيئا من كلام المخلوق، وتلوت شيئا من كلام الخالق فلحقني ما ترى. فتحققت صحّة دينه وقوة يقينه.
قال السلفي: وسألت أبا زكريا التبريزي إمام عصره في اللغة ببغداد، فقلت له: قد رأيت أبا العلاء بالمعرة وعليّ بن عثمان بن جني الموصلي بصور والقصابيّ بالبصرة وابن برهان ببغداد وغيرهم من الأدباء فمن المفضّل من بينهم؟ قال: هؤلاء أئمة لا يقال لهم أدباء، وأفضل من رأيته ممن قرأت عليه أبو العلاء.
قال السلفي: حكي عن أبي العلاء المعري في الكتاب الذي أملاه وترجمه ب «الفصول والغايات» ، وكأنه معارضة منه للسور والآيات، فقيل له: أين هذا من القرآن؟ فقال: لم تصقله المحاريب أربعمائة سنة.
قال السلفي: كان أبو نصر المنازي أحد وزراء نصير الدولة ابن مروان بديار بكر، فأرسله إلى مصر رسولا، فوصل إلى المعرة ودخل إلى أبي العلاء مسلّما مناشدا، وانبسط أحدهما إلى الآخر، وتذكر أبو العلاء ما يقاسي من الناس وكلامهم فيه، فقال له أبو نصر: ماذا يريدون منك وقد تركت لهم الدنيا والآخرة، فقال:
والآخرة أيضا؟ قال: والآخرة أيضا، والآخرة أيضا. فأطرق ولم يكلّمه إلى أن قام.