للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وما ورث برّي عن كلالة، ولا أخذ تفقّدي من دار غربة: شنشنة من أخزم [١] ، ونشنشة من أخشن [٢] . إنما تقيّل [٣] أباه، والشّكير نابت من العضة، والبرم من السّلم [٤] ، ومن أشبه أباه فما ظلم [٥] . ما زالت كتبه تطرق أصدقاءه، محافظة على المكارم، ومراعاة لأمر غير لازم، حتّى جعلهم إليّ كعرف الفرس، أو قوى المرس.

وكلّما عرضوا قضاء حاجة أعرضت عن تكليف المشقّة، لأنّي أعتقد حكمة زهير في قوله [٦] :

ومن لا يزل يستحمل النّاس نفسه ... ولا يعفها يوما من الذّلّ يسأم

ولو علمت أنّي أرجع على قروائي، لم أتوجّه لهذه الجهة، ولكنّ البلاء موكّل بالمنطق، والخيرة مغيّبة، والخطوب مثل دوك النّوفل [٨] ، يفتح بعضه عن مثل نبات الغمق، وبعضه عن ذوات النسق [٩] . لا يدري الرّجل بم يولع هرمه [١٠] ، ولا إلى أيّ أجمة يسوقه جدّه. وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ

(الأعراف: ١٨٨) . وجد في لوح:

يا أيّها المضمر همّا لا تهمّ ... إنّك إن تقدر لك الحمّى تحمّ

ورعاية الله شاملة لمن عرفته ببغداد؛ فلقد أفردوني بحسن المعاملة، وأثنوا عليّ في الغيبة، وأكرموني دون النّظراء والطّبقة. ولما آنسوا تشميري للرّحيل، وأحسّوا بتأهّبي للظّعن، أظهروا كسوف بال، وقالوا من جميل كلّ مقال، وتلفّعوا من


[١] جمهرة العسكري ١: ٥٤١ يضرب مثلا للرجل يشبه أباه، وأخزم: من جدود حاتم، فخرج حاتم على مثاله في الجود.
[٢] نشنشة: حجر، والأخشن: الجبل.
[٣] تقيل: سار على منواله.
[٤] الشكير: ما ينبت في أصول الشجر، والبرم: ثمر العضاه.
[٥] مثل، انظر العسكري ٢: ٢٤٤.
[٦] شرح ديوان زهير: ٣٢.
[٧] رجع على قروائه أي على قفاه.
[٨] الدوك: الموج، النوفل: البحر.
[٩] نبات الغمق: نبات لريحه فساد؛ وذوات النسق: الأسنان المتناسقة.
[١٠] هرمه: عقله.

<<  <  ج: ص:  >  >>