صغير إلى كبير، فكان جوابه أنه يصغر عن أن يكون للاسترشاد محلا، فقلت: هذه زيادة في فضله، وما يجوز صدور مثله عن مثله. ثم انتهى إلى الإحالة على كون الناس ممن تقدّم أو تأخر في وادي الحيرة تائهين، وفي أذيالها متعثرين، من قائل يقول إن الخير والشرّ من الله، ومجيب يجيبه هل كان ما كان يستعيذ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم من وعث السفر وكلّ مستعاذ منه خيرا أو شرا؟ فإن كان خيرا فالاستعاذة منه باطلة، وان كان شرا والله مريده فالاستعاذة منه كذلك فضول وزيادة في المعنى. وسؤال من يسأل هل كان سمّ الحسن وقتل الحسين عليهما السلام خيرا أو شرا؟ فإن كان خيرا فاللعنة على القاتل من أي جهة، وان كان شرا والله مريده زال اللوم عن القاتل. وقائل يقول: إنّ الخير من الله والشرّ من غيره، ومجيب يجيب بالجواب الذي يقطع به الأسباب، وغير ذلك مما أطال به الخطاب من أشعار الملحدة وأقوالهم، فكان جوابي- أدام الله سلامته- أنني من هؤلاء الذين [ذكرتهم] تبريت اليك، وتطارحت عليك، وان كلامهم عندي قبل أن علّلته عليل، وهو على مسامع القبول منّي ثقيل، فافتح لي إلى ما عندك بابا، وافسح لي من لدنك جنابا، فلم يفعل.
ثم خاطبته على امتناعه من أكل اللحوم فاحتجّ بكونه متحرجا من قصدها- أعني البهائم- بالمضرّة والايلام، متعففا عنها لهذه الجهة، فقطعت لسان حجته بعد تناهيها وقلت: إذا كان الله تعالى سلّط بعضها ليأكل بعضا، وهو أعرف بوجوه الحكمة وأرأف بالخليقة، فلا يكن أرأف بها من ربها ولا أعدل فيها من خالقها.
ثم عدل إلى قصور يد الاستطاعة دون ذلك، إذ كان القدر الذي هو له في السنة منصرفا إلى من يتولّى خدمته أكثره وخالصا له أقلّه، فقطعت الحجة في هذا الباب أيضا، وعيّنت له على جهة كريمة من الذين لا يتبعون ما أنفقوا منّا ولا أذى من يقوم بقدر كفايته من أطيب ما يأكلون، وأزكى ما في البيوت يدّخرون؛ فتجافت نفسه- وقاها الله السوء- عن هذا الباب أيضا، وكتب في الجواب الثاني بأنه لا يؤثر ذلك ولا يرغب فيه ولا يخرق عادته المستمرة في الترك، وابتدأ يقول إني طلبت الرشد ممن لا رشد عنده وان البيت الذي قاله مما تعلقت به وجعلته محجة إلى استقراء طريقته ومذهبه، إنما أراد الإعلام باجتهاده في التديّن، وما حيلته في الآية المنزلة مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً