فقرأ الأبيات عمرو، ووقف عليها من كان في المجلس وقرأوها، فاستحيا عمرو وانقطع عن الحضور، وغلب الأمر على مدرك فترك مجلسه وتبعه، وقال فيه قصيدته المزدوجة المشهورة التي أولها:
من عاشق ناء هواه دان ... ناطق دمع صامت اللسان
موثق قلب مطلق الجثمان ... معذّب بالصدّ والهجران
وهي طويلة. وكتب إليه لما هجره وقطع مجلسه:
فيض الدموع وشدة الأنفاس ... شهدا على ما في هواه أقاسي
لبس الملاحة وهو ألبسني الضنا ... شتان بين لباسه ولباسي
يا من يريد وصالنا ويصدّه ... ما قد يحاذر من لباس [١] الناس
صلني فإن سبقت إليك مقالة ... منهم فعصّب ما يقال براسي
ثم خرج مدرك إلى الوسواس وسلّ جسمه وتغير عقله وترك مجلسه وانقطع عن الاخوان ولزم الفراش. قال حسان بن محمد بن عيسى بن شيخ: فحضرته عائدا في جماعة من إخوانه فقال: ألست صديقكم والقديم العشرة لكم؟ أفما فيكم أحد يسعدني بالنظر إلى وجه عمرو؟ قال: فمضينا إلى عمرو فقلنا له: إن كان قتل هذا الرجل دينا فإن إحياءه مروءة، قال: وما فعل؟ قلنا: قد صار إلى حال لا نحسبك تلحقه، قال: فنهض معنا، فلما دخلنا عليه سلم عليه عمرو فأخذ بيده وقال: كيف تجدك يا سيدي، فنظر إليه ثم أغمي عليه وافاق وهو يقول:
أنا في عافية ... الّا من الشوق إليكا
أيها العائد ما بي ... منك لا يخفى عليكا
لا تعد جسما وعد قلبا رهينا في يديكا ... كيف لا يهلك مرشو
ق بسهمي مقلتيكا
ثم شهق شهقة فارق فيها الدنيا، فما برحنا حتى دفناه، رحمه الله.