وأقمت «١» بها مدة عام كامل وضاق الأمر عليّ فهربت قاصدا للشام على اجتهاد من الاستتار «٢» ، فلحقني في بعض الطريق فارس مجدّ فسلّم عليّ وسلّم إليّ مكتوبا ففضضته وإذا هو من الصفّي ابن شكر يذكر فيه: لا تحسب أن اختفاءك عني كان بحيث لا أدري أين أنت ولا أين مكانك، فاعلم أن أخبارك كانت تأتيني يوما يوما «٣» وأنك كنت في قبور الماذرائيين بالقرافة منذ يوم كذا، وأنني اجتزت هناك واطّلعت فرأيتك بعيني، وأنك لما خرجت هاربا عرفت خبرك، ولو أردت ردّك لفعلت، ولو علمت أنك قد بقي لك مال أو حال لما تركتك، ولم يكن ذنبك عندي مما يبلغ أن أتلف معه نفسك، وإنما كان مقصودي أن أدعك تعيش خائفا فقيرا غريبا مهجّجا «٤» في البلاد، فلا تظنّ أنك هربت مني بمكيدة صحّت لك عليّ، فاذهب إلى غير دعة الله.
قال: وتركني القاصد وعاد، فبقيت مبهوتا إلى أن وصلت إلى حلب.
فحدثني الصاحب جمال الدين الأكرم- أدام الله علوّه-: لما ورد إلى حلب نزل في داري، فأقام عندي مدة وذلك في سنة أربع وستمائة، وعرف الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين بن أيوب رحمه الله خبره فأكرمه وأجرى عليه في كلّ يوم دينارا صوريا وثلاثة دنانير أخرى في الشهر أجرة دار، فكان يصل إليه في كلّ شهر ثلاثة وثلاثون دينارا غير برّ وألطاف ما كان يخليه منها، وأقام عنده على قدم العطلة إلى سنة ست وستمائة كما ذكرنا، ومات فدفن بظاهر حلب بمقام بقرب قبر أبي بكر الهروي.
وله تصانيف كثيرة يقصد بها قصد التأدب وفي معرض وقائع تجري، ويعرضها على الأكابر، لم تكن مفيدة إفادة علمية إنما كانت شبيهة بتصانيف «٥» الثعالبي وأضرابه، فمن ذلك كتاب تلقين اليقين في الفقه. كتاب سرّ الشعر. كتاب علم النثر. كتاب الشيء بالشيء يذكر، وعرضه على القاضي فسمّاه «سلاسل الذهب» لأخذ بعضه بشعب بعض. كتاب تهذيب الأفعال لابن طريف. كتاب قرقرة الدجاج في ألفاظ ابن