هؤلاء «١» مصر ونزلوا قريبا منها لم يبق أحد من الدولة العباسية إلا خرج للاستقبال والخدمة، غير الوزير أبي الفضل ابن حنزابة، فإنه لم يخرج، فلما كان في الليلة التي صبيحتها الدخول اجتمع إليه مشايخ البلد وعاتبوه في فعله، وقيل له: إنك تغري بدماء أهل السنة، ويجعلون تأخرك عنهم سببا للانتقام، قال: الآن أخرج، فخرج للسلام، فلما دخل عليه أكرمه وبجّله وأجلسه وفي قلبه منه شيء، وكان إلى جنبه ابنه وولي عهده، وغفل الوزير عن التسليم عليه، فأراد أن يمتحنه بسبب يكون إلى الوقيعة به، فقال له: حجّ الشيخ؟ فقال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: وزرت الشيخين؟
فقال: شغلت بالنبي صلى الله عليه وسلّم عنهما، كما شغلت بأمير المؤمنين عن ولي عهده، السلام عليك يا وليّ عهد المسلمين ورحمة الله وبركاته، فأعجب من فطنته وتداركه ما أغفله، وعرض عليه الوزارة فامتنع، فقال: إذا لم تل لنا شغلا فيجب أن لا تخرج عن بلادنا فإنّا لا نستغني أن يكون في دولتنا مثلك، فأقام بها ولم يرجع إلى بغداد.
قال وسمعت أبا إسحاق الحبال «٢» يقول: كان يستعمل للوزير أبي الفضل الكاغد بسمرقند، ويحمل إليه إلى مصر في كل سنة، وكان في خزانته عدة من الوراقين، فاستعفى بعضهم فأمر بأن يحاسب ويصرف، فكمل عليه مائة دينار، فعاد إلى الوراقة وترك ما كان عزم عليه من الاستعفاء.
قال: وسمعت أبا إسحاق إبراهيم بن سعيد الحبال يقول «٣» : خرج أبو نصر السجزي الحافظ على أكثر من مائة شيخ لم يبق منهم غيري، وكان قد خرج له عشرين جزءا في وقت الطلب، وكتبها في كاغد عتيق، فسألت الحبال عن الكاغد فقال: هذا من الكاغد الذي كان يحمل للوزير من سمرقند، وقعت إليّ من كتبه قطعة، فكنت إذا رأيت فيها ورقة بيضاء قطعتها إلى أن اجتمع هذا، فكتبت فيه هذه الفوائد.