قال أبو عبد الله الخالع: كان أبو القاسم جعفر بن محمد بن حمدان الموصلي ممن عمّر طويلا، وكانت بينه وبين البحتري مراسلة «١» ، ورثاه بعد وفاته، ومدح القاسم بن عبيد الله وأدرك أبا العباس النامي وتكاتبا بالشعر.
وقال أبو علي ابن الزمكدم: كان ابن حمدان كبير المحلّ من أهل الرياسات بالموصل، ولم يكن بها في وقته من ينظر إليه ويفضّل في العلوم سواه، متقدما في الفقه معروفا به، قويا في النحو فيما يكتبه، عارفا بالكلام والجدل مبرزا فيه، حافظا لكتب اللغة، راوية للأخبار، بصيرا بالنجوم، عالما مطلعا على علوم الأوائل عالي الطبقة فيها، وكان صديقا لكل من وزراء عصره مدّاحا لهم، آنسا بالمبرد وثعلب وأمثالهما من علماء الوقت مفضّلا عندهم. وكانت له ببلده دار علم قد جعل فيها خزانة كتب من جميع العلوم وقفا على كلّ طالب لعلم، لا يمنع أحد من دخولها إذا جاءها غريب يطلب الأدب، وإن كان معسرا «٢» أعطاه ورقا وورقا، تفتح في كلّ يوم ويجلس فيها إذا عاد من ركوبه، ويجتمع إليه الناس فيملي «٣» عليهم من شعره وشعر غيره ومصنفاته، مثل الباهر وغيره من مصنفاته الحسان، ثم يملي من حفظه من الحكايات المستطابة وشيئا من النوادر المؤلفة وطرفا من الفقه وما يتعلق به. وكان جماعة من أهل الموصل حسدوه على محلّه وجاهه عند الخلفاء والوزراء والعلماء، وكان قد جحد بعض أولاده وزعم أنه ليس منه، فعاندوه بسببه وزعموا أنه نفاه ظلما واجتهدوا أن يلحقوه به فما تمّ لهم، فاجتمعوا وكتبوا فيه محضرا وشهدوا عليه فيه بكلّ قبيح عظيم «٤» ، ونفوه عن الموصل فانحدر هاربا منهم إلى مدينة السلام، ومدح المعتضد بقصيدة يشكو فيها ما ناله منهم، ويصف ما يحسنه من العلوم ويستشهد بثعلب والمبرد وغيرهما، أولها:
أجدّك ما ينفكّ طيفك ساريا ... مع الليل مجتابا إلينا الفيافيا