للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حاسبا، قال الأستاذ أبو العلاء الحسين بن محمد بن مهرويه في كتابه الذي سماه «أجناس الجواهر» : كنت بمدينة السلام أختلف إلى أبي علي الفارسي النحوي رحمه الله، وكان السلطان رسم له أن ينتصب لي كلّ أسبوع يومين لتصحيح «كتاب التذكرة» لخزانة كافي الكفاة، فكنا إذا قرأنا أوراقا منه تجارينا في فنون الآداب، واجتنينا من فوائد ثمار الألباب، ورتعنا في رياض ألفاظه ومعانيه، والتقطنا الدرّ المنثور من سقاط فيه. فأجرى يوما بعض الحاضرين ذكر الأصمعي، وأسرف في الثناء عليه وفضّله على أعيان العلماء في أيامه، فرأيته رحمه الله كالمنكر لما كان يورده، وكان فيما ذكر من محاسنه ونشر من فضائله أن قال: من ذا الذي يجسر أن يخطّىء الفحول من الشعراء غيره؟ فقال أبو علي: وما الذي ردّ عليهم؟ فقال الرجل: أنكر على ذي الرمة مع إحاطته بلغة العرب ومعانيها، وفضل معرفته بأغراضها ومراميها، وانه سلك نهج الأوائل في وصف المفاوز إذا لعب السراب فيها، ورقص الآل في نواحيها، ونعت الحرباء وقد سبح على جذله، والظليم وكيف ينفر من ظله، وذكر الركب وقد مالت طلاهم من غلبة المنام، حتى كأنهم صرعتهم كؤوس المدام، فطبّق مفصل الإصابة في كلّ باب، وساوى الصدر الأول من أرباب الفصاحة، وجارى القروم البزل من أصحاب البلاغة، فقال له الشيخ أبو علي: وما الذي أنكر على ذي الرمة؟ فقال قوله:

وقفنا فقلنا إيه عن أمّ سالم

لأنه كان يجب أن ينوّنه، فقال: أما هذا فالأصمعي مخطىء فيه وذو الرمة مصيب، والعجب أن يعقوب بن السكيت قد وقع عليه هذا السهو في بعض ما أنشده، فقلت: إن رأى الشيخ أن يصدع لنا بجلية هذا الخطأ تفضّل به. فأملى علينا، أنشد ابن السكيت لأعرابي من بني أسد:

وقائلة أسيت فقلت جير ... أسيّ إنني من ذاك إنّه

أصابهم الحمى وهم عواف ... وكنّ عليهم نحسا لعنّه

فجئت قبورهم بدءا ولمّا ... فناديت القبور فلم يجبنه

وكيف يجيب أصداء وهام ... وأبدان بدرن وما نخرنه

<<  <  ج: ص:  >  >>