قال البلطي: كان ملك النحاة قدم إلى الشام فهجاه ثلاثة من الشعراء ابن منير والقيسراني والشريف الواسطي، واستخف به ابن الصوفي ولم يوفه قدر مدحه، فعاد إلى الموصل ومدح جمال الدين وجماعة من رؤسائها وقضاتها، فلما نبت به الموصل قيل له: لو رجعت إلى الشام، فقال: لا أرجع إلى الشام إلا أن يموت ابن الصوفي وابن منير والقيسراني والشريف الواسطي، فقتل الشريف الواسطي ومات ابن منير والقيسراني في مدة سنة، ومات الصوفي بعدهم بأشهر.
وحدثني شيخنا أبو البقاء يعيش بن علي بن يعيش النحوي قال: بلغني أنه كان لملك النحاة غلام، وكان سيّء العشرة قليل المبالاة بمولاه ملك النحاة، فأرسله يوما في شغل ليتعجل في إنجازه، فأبطأ فيه غاية الإبطاء، ثم جاء بعذر غير جميل، وكان يحضر ملك النحاة جماعة من أصدقائه والتلامذة، فغضب ملك النحاة وخرج عن حدّ الوقار الذي كان يلتزمه ويتوخّاه وقال له: ويلك أخبرني ما سبب قلة مبالاتك بي واطّراحك لقبول أوامري؟ أنكتك قط؟ فبادر الغلام وقال: لا والله يا مولاي معاذ الله أن تفعل ذلك بي فإنك أجلّ من ذلك، قال: ويلك فنكتني قط؟ فحرك الغلام رأسه متعجبا من كلامه وسكت، فقال له: ويلك أدركني بالجواب، هذا موضع السكوت لا رعاك الله يا ابن الفاعلة؟ عجّل قل ما عندك قل، فقال: لا والله، قال:
فما السبب في أنك لا تقبل قولي ولا تسرع في حاجتي؟ فقال له: إن كان سبب الانبساط لا يكون إلا هذين فسأعدك ولا أعود إلى ما تكره إن شاء الله.
قال العماد «١» : أقام ملك النحاة بالشام في رعاية نور الدين محمود بن زنكي، وكان مطبوعا متناسب الأحوال والأفعال، يحكم على أهل التمييز بحكم ملكه فيقبل ولا يستثقل «٢» . وكان يقول: هل سيبويه إلا من رعيتي؟ ولو عاش ابن جني لم يسعه إلا حمل غاشيتي، مرّ الشيمة حلو الشتيمة، يضم يده على المائة والمائتين، ويمشي وهو منها صفر اليدين، مولع باستعمال الحلاوات السكرية وإهدائها إلى جيرانه وإخوانه، مغرى بإحسانه إلى خلصانه وخلانه.