قال متى: يونان وإن بادت مع لغتها فإن الترجمة قد حفظت الأغراض وأدّت المعاني وأخلصت الحقائق.
قال أبو سعيد: إذا سلمنا لك أن الترجمة صدقت وما كذبت، وقوّمت وما حرّفت، ووزنت وما جزفت، وأنها ما التاثت ولا حافت، ولا نقصت ولا زادت، ولا قدمت ولا أخرت، ولا أخلّت بمعنى الخاصّ والعامّ ولا بأخصّ الخاصّ ولا بأعمّ العامّ، وإن كان هذا لا يكون، وليس في طبائع اللغات ولا في مقادير المعاني، فكأنك تقول بعد هذا: لا حجة إلا عقول يونان، ولا برهان إلا ما وصفوه «١» ، ولا حقيقة إلا ما أبرزوه.
قال متى: لا ولكنهم من بين الأمم أصحاب عناية بالحكمة، والبحث عن ظاهر هذا العالم وباطنه، وعن كل ما يتّصل به وينفصل عنه، وبفضل عنايتهم ظهر ما ظهر، وانتشر ما انتشر، وفشا ما فشا، ونشا ما نشا من أنواع العلم وأصناف الصناعة «٢» ، ولم نجد هذا لغيرهم.
قال أبو سعيد: أخطأت وتعصبت وملت مع الهوى، فإن العلم مبثوث في العالم، ولهذا قال القائل:
العلم في العالم مبثوث ... ونحوه العاقل محثوث
وكذلك الصناعات مفضوضة على جميع من على جديد الأرض، ولهذا غلب علم في مكان دون مكان، وكثرت صناعة في بقعة دون صناعة، وهذا واضح والزيادة عليه مشغلة، ومع هذا فإنما كان يصح قولك وتسلم دعواك لو كانت يونان معروفة بين جميع الأمم بالعصمة الغالبة والفطرة «٣» الظاهرة والبنية المخالفة، وأنهم لو أرادوا أن يخطئوا ما قدروا، ولو قصدوا أن يكذبوا ما استطاعوا، وأن السكينة نزلت عليهم، والحقّ تكفّل بهم، والخطأ تبرأ منهم، والفضائل لصقت بأصولهم وفروعهم، والرذائل بعدت عن جواهرهم وعروقهم وهذا جهل ممّن يظنه بهم، وعناد ممّن يدّعيه