عليهم، بل كانوا كغيرهم من الأمم يصيبون في أشياء ويخطئون في أشياء، ويصدقون في أمور ويكذبون في أمور، ويحسنون في أحوال ويسيئون في أحوال، وليس واضع المنطق يونان بأسرها، إنما هو رجل منهم، وقد أخذ عمن قبله، كما أخذ عنه من بعده، وليس هو حجة على هذا الخلق الكثير والجمّ الغفير، وله مخالفون منهم ومن غيرهم. ومع هذا فالاختلاف في الرأي والنظر والبحث والمسألة والجواب سنخ وطبيعة، فكيف يجوز أن يأتي رجل بشيء يرفع به هذا الخلاف أو يحلحله أو يؤثر فيه، هيهات هذا محال، ولقد بقي العالم بعد منطقه على ما كان قبل منطقه، وامسح وجهك بالسلوة عن شيء لا يستطاع، لأنه مفتقد بالفطرة والطباع، وأنت فلو فرّغت بالك وصرفت عنايتك إلى معرفة هذه اللغة التي تحاورنا بها وتجارينا فيها وتدارس أصحابك بمفهوم أهلها وتشرح كتب يونان بعبارة «١» أصحابها لعلمت أنك غنيّ عن معاني يونان كما أنك غني عن لغة يونان. وها هنا مسألة: أتقول إن الناس عقولهم مختلفة وأنصباؤهم منها متفاوتة؟ قال متى: نعم، قال: وهذا التفاوت والاختلاف بالطبيعة أو الاكتساب؟ قال: بالطبيعة، قال فكيف يجوز أن يكون ها هنا شيء يرتفع به الاختلاف الطبيعيّ والتفاوت الأصليّ؟ قال متى: هذا قد مرّ في جملة كلامك آنفا، قال أبو سعيد: فهل وصلته بجواب قاطع، وبيان ناصع؟ ودع هذا: أسألك عن حرف واحد هو دائر في كلام العرب، ومعانيه متميّزة عند أهل العقل فاستخرج أنت معانيه من ناحية منطق أرسطاطاليس الذي تدلّ به وتباهي بتفخيمه- وهو الواو- وما أحكامه وكيف مواقعه؟ وهل هو على وجه واحد أو وجوه؟
فبهت متى وقال: هذا نحو، والنحو لم أنظر فيه لأن لا حاجة بالمنطقي إلى النحو، وبالنحويّ حاجة إلى المنطق، لأن المنطق يبحث عن المعنى، والنحو يبحث عن اللفظ، فإن مرّ المنطقي باللفظ فبالعرض، وإن عبر النحوي بالمعنى فبالعرض، والمعنى أشرف من اللفظ، واللفظ أوضع من المعنى.
قال أبو سعيد: أخطأت لأن المنطق والنحو واللفظ والإفصاح والإعراب والإنباء والحديث والاخبار والاستخبار والعرض والتمني والحضّ والدعاء والنداء والطلب كلها