قَرَأَ نَافِعٌ وَالْبَصْرِيُّ (اتَّبَعَنِي) بِالْيَاءِ فِي الْوَصْلِ خَاصَّةً، وَالْبَاقُونَ بِحَذْفِهَا وَصْلًا وَوَفْقًا. بَعْدَ مَا بَيَّنَ - تَعَالَى - جَزَاءَ الْمُتَّقِينَ وَبَيَّنَ حَالَهُمْ فِي إِيمَانِهِمْ وَمَدَحَ أَصْنَافَهُمُ الْكَامِلِينَ فِي أَوْصَافِهِمْ بَيَّنَ أَصْلَ الْإِيمَانِ وَأَسَاسَهُ فَقَالَ: شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ صَرَّحَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ بِأَنَّ شَهَادَةَ اللهِ هُنَا مِنْ بَابِ الِاسْتِعَارَةِ ; لِأَنَّ مَا نَصَبَهُ مِنَ الدَّلَائِلِ فِي الْآفَاقِ وَفِي الْأَنْفُسِ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَمَا أَوْحَاهُ إِلَى أَنْبِيَائِهِ فِي ذَلِكَ يُشْبِهُ شَهَادَةَ الشَّاهِدِ بِالشَّيْءِ فِي إِظْهَارِهِ وَإِثْبَاتِهِ، وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ الْمَلَائِكَةِ عِبَارَةٌ عَنْ إِقْرَارِهِمْ بِذَلِكَ كَمَا قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ. زَادَ أَبُو السُّعُودِ: وَإِيمَانُهُمْ بِهِ، وَجَعْلُهَا مِنْ بَابِ عُمُومِ الْمَجَازِ، وَشَهَادَةُ أُولِي الْعِلْمِ عِبَارَةٌ عَنْ إِيمَانِهِمْ بِهِ وَاحْتِيَاجِهِمْ عَلَيْهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ كُلٍّ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، لِأَنَّهَا إِمَّا عِبَارَةٌ عَنِ الْإِخْبَارِ الْمَقْرُونِ بِالْعِلْمِ وَإِمَّا عِبَارَةٌ عَنِ الْإِظْهَارِ وَالْبَيَانِ، وَكُلُّ ذَلِكَ حَاصِلٌ مِنَ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَأُولِي الْعِلْمِ، فَاللهُ - تَعَالَى - أَخْبَرَ بِتَوْحِيدِهِ مَلَائِكَتَهُ وَرُسُلَهُ عَنْ عِلْمٍ، وَبَيَّنَهُ لَهُمْ أَتَمَّ الْبَيَانِ، وَالْمَلَائِكَةُ أَخْبَرُوا الرُّسُلَ وَبَيَّنُوا لَهُمْ، وَأُولُو الْعِلْمِ أَخْبَرُوا بِذَلِكَ وَبَيَّنُوهُ عَالِمِينَ بِهِ لَا يَزَالُونَ كَذَلِكَ. وَأَقُولُ: إِنَّ مَا قَالَهُ الْأَوَّلُونَ ضَعِيفٌ وَأَقْرَبُ التَّفْسِيرَيْنِ لِلشَّهَادَةِ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ أَوَّلُهُمَا، يُقَالُ: شَهِدَ الشَّيْءَ إِذَا حَضَرَهُ وَشَاهَدَهُ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ [٢: ١٨٥] وَقَوْلِهِ: مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ [٢٧: ٤٩] وَيُقَالُ شَهِدَ بِهِ إِذَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ مُشَاهَدَةٍ بِالْبَصَرِ وَهُوَ الْأَكْثَرُ وَالْأَصْلُ، أَوْ عَنْ مُشَاهَدَةٍ بِالْبَصِيرَةِ وَهِيَ الِاعْتِقَادُ وَالْعِلْمُ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنْ إِخْوَةِ يُوسُفَ: وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا [١٢:٨١] وَذَلِكَ أَنَّهُمْ أَخْبَرُوا أَبَاهُمْ يَعْقُوبَ بِأَنَّ ابْنَهُ (شَقِيقَ يُوسُفَ) سَرَقَ عَنِ اعْتِقَادٍ لَا عَنْ مُشَاهَدَةٍ بِالْبَصَرِ، وَإِنَّمَا سَمُّوا اعْتِقَادَهُمْ عِلْمًا لِأَنَّهُ لَمْ يَخْطُرْ فِي بَالِهِمْ مَا يُعَارِضُ مَا رَأَوْهُ مِنْ إِخْرَاجِ صُوَاعِ الْمَلِكِ مِنْ رَحْلِ شَقِيقِ يُوسُفَ بَعْدَ مَا نُودِيَ فِيهِمْ بِأَنَّ الصُّوَاعَ قَدْ سُرِقَ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الشَّهَادَةَ بِالشَّيْءِ هِيَ الْإِخْبَارُ بِهِ عَنْ عِلْمٍ بِالْمُشَاهَدَةِ الْحِسِّيَّةِ أَوِ الْمَعْنَوِيَّةِ وَهِيَ الْحُجَّةُ وَالدَّلِيلُ وَهُوَ الْمُخْتَارُ هُنَا. وَلَكِنْ يَرُدُّ عَلَيْهِ هُنَا أَنَّهُ إِثْبَاتٌ لِلتَّوْحِيدِ بِالنَّقْلِ وَهُوَ فَرْعٌ عَنْهُ ; لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَثْبُتْ تَوْحِيدُ اللهِ لَا يَثْبُتِ الْوَحْيُ. وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ شَهَادَةَ اللهِ فِي كِتَابِهِ مُؤَيَّدَةٌ بِالْبَرَاهِينِ الَّتِي قَرَنَهَا بِهَا وَبِالْآيَاتِ عَلَى صِدْقِ الرُّسُلِ، وَشَهَادَةُ الْمَلَائِكَةِ لِلْأَنْبِيَاءِ مَقْرُونَةٌ بِعِلْمٍ ضَرُورِيٍّ هُوَ عِنْدَ الْأَنْبِيَاءِ أَقْوَى مِنْ جَمِيعِ الْيَقِينِيَّاتِ الْبَدِيهِيَّةِ، وَبِتِلْكَ الدَّلَائِلِ الَّتِي أُمِرُوا بِأَنْ يَحْتَجُّوا بِهَا عَلَى النَّاسِ، وَشَهَادَةُ أُولِي الْعِلْمِ تُقْرَنُ عَادَةً بِالدَّلَائِلِ وَالْحُجَجِ ; لِأَنَّ الْعَالِمَ بِالشَّيْءِ لَا تَعُوزُهُ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ. عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ فِي وَحْدَانِيَّةِ الْأُلُوهِيَّةِ، وَالْمُشْرِكُ بِهَا لَا يَكُونُ مُعَطَّلًا حَتَّى يُقَالَ لَا
بُدَّ مِنْ إِقْنَاعِهِ بِوُجُودِ اللهِ إِقْنَاعُهُ بِشَهَادَتِهِ، بَلْ يَكُونُ مُقِرًّا بِوُجُودِ اللهِ، وَإِنَّمَا شِرْكُهُ بِاتِّخَاذِ الْوُسَطَاءِ يَكُونُونَ بِزَعْمِهِ وَسَائِلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ يُقَرِّبُونَهُ إِلَيْهِ زُلْفَى، وَبِالشُّفَعَاءِ يَكُونُونَ فِي وَهْمِهِ سَبَبًا لِقَضَاءِ حَاجَاتِهِ وَتَكْفِيرِ سَيِّئَاتِهِ، كَمَا كَانَتْ تَدِينُ الْعَرَبَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute