للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

يُسَمُّونَهَا التَّوْرَاةَ لَا دَلِيلَ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي كَتَبَهَا وَلَا هِيَ مَحْفُوظَةٌ عَنْهُ، بَلْ قَامَ الدَّلِيلُ عِنْدَ الْبَاحِثِينَ مِنَ الْأُورُبِّيِّينَ عَلَى أَنَّهَا كُتِبَتْ بَعْدَهُ بِمِئَاتٍ مِنَ السِّنِينَ (أَرَاهُ قَالَ خَمْسَمِائَةِ سَنَةٍ) وَكَذَلِكَ يُقَالُ فِي سَائِرِ الْكُتُبِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ فِي الْمَجْمُوعِ الَّذِي يُسَمُّونَهُ (الْكِتَابَ الْمُقَدَّسَ) أَقُولُ: وَلَا تُعْرَفُ اللُّغَةُ الَّتِي كُتِبَتْ بِهَا التَّوْرَاةُ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى أَنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يَعْرِفُ اللُّغَةَ الْعِبْرَانِيَّةَ وَإِنَّمَا كَانَتْ لُغَتُهُ مِصْرِيَّةً، فَأَيْنَ هِيَ التَّوْرَاةُ الَّتِي كَتَبَهَا بِتِلْكَ اللُّغَةِ وَمَنْ تَرْجَمَهَا عَنْهَا؟

أَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَلِلتَّرَاخِي فِيهِ وَجْهَانِ (أَحَدُهُمَا) اسْتِبْعَادُ تَوَلِّيهِمْ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْأَصْلِ الَّذِي يَكُونُ عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُ. (ثَانِيهِمَا) أَنَّهُمْ إِذَا دَعَوْا إِلَى حُكْمِ الْكِتَابِ يَتَوَلَّى ذَلِكَ الْفَرِيقُ بَعْدَ تَرَدُّدٍ وَتَرَوٍّ فِي الْقَبُولِ وَعَدَمِهِ، وَكَانَ مِنْ مُقْتَضَى الْإِيمَانِ أَلَّا يَتَرَدَّدَ الْمُؤْمِنُ فِي إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ إِلَى حُكْمِ كِتَابِهِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ دِينِهِ، أَوْرَدَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ وَقَالَ: عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكْتَفُوا بِالتَّرَدُّدِ حَتَّى تَوَلَّوْا بِالْفِعْلِ، وَلَمْ يَكُنِ التَّوَلِّي عَرَضًا حَدَثَ لَهُمْ بَعْدَ أَنْ كَانُوا مُقْبِلِينَ عَلَى الْكِتَابِ خَاضِعِينَ لِحُكْمِهِ فِي كُلِّ حَالٍ وَآنٍ، بَلْ هُوَ وَصْفٌ لَهُمْ لَازِمٌ، بَلِ اللَّازِمُ لَهُمْ مَا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ وَهُوَ الْإِعْرَاضُ عَنْ كِتَابِ اللهِ فِي عَامَّةِ أَحْوَالِهِمْ، فَجُمْلَةُ وَهُمْ مُعْرِضُونَ لَيْسَتْ مُؤَكِّدَةً لِلتَّوَلِّي - كَمَا قِيلَ - بَلْ هِيَ مُؤَسِّسَةٌ لِوَصْفِ الْإِعْرَاضِ الَّذِي هُوَ أَبْلَغُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا قَالَ: فَرِيقٌ مِنْهُمْ لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ لَيْسَ عَامًّا لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْهُمْ، بَلْ كَانَ مِنْهُمْ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ. وَمِنْهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

أَقُولُ: وَهَذَا مِمَّا عَهِدْنَا فِي أُسْلُوبِ الْقُرْآنِ مِنْ تَحْدِيدِ الْحَقَائِقِ وَالِاحْتِرَاسِ فِي الْحُكْمِ عَلَى الْأُمَمِ، فَتَارَةً يَحْكُمُ عَلَى فَرِيقٍ مِنْهُمْ فِي مَقَامِ بَيَانِ شُئُونِهِمْ وَتَارَةً يَحْكُمُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ، وَإِذَا أَطْلَقَ الْحُكْمَ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ يُتْبِعُهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ الْأَقَلِّ كَقَوْلِهِ: تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ [٢: ٢٤٦] .

ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ رَوَى جَرِيرٌ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ بَعْضَ الْيَهُودِ قَالُوا ذَلِكَ، وَأَنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ الْمَعْدُودَاتِ هِيَ أَرْبَعُونَ يَوْمًا مُدَّةَ عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِي عَدَدِ هَذِهِ الْأَيَّامِ شَيْءٌ، وَلَيْسَ فِي كُتُبِ الْيَهُودِ الَّتِي فِي أَيْدِيهِمْ وَعْدٌ بِالْآخِرَةِ وَلَا وَعِيدٌ، فَكُلُّ

مَا وَعَدَتْ بِهِ عَلَى الْعَمَلِ بِالْكِتَابِ هُوَ الْخَيْرُ وَالْخِصْبُ وَالسُّلْطَةُ فِي الْأَرْضِ، وَمَا أَوْعَدَتْ بِهِ هُوَ سَلْبُ هَذِهِ النِّعَمِ وَتَسْلِيطُ الْأُمَمِ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنَّ الْإِسْلَامَ بَيَّنَ لَنَا أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ أَمَرَ بِالْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَوَعَدَ وَأَوْعَدَ، فَهَذَا هُوَ الْحَقُّ سَوَاءٌ أُوجِدَ فِي كُتُبِهِمْ أَمْ لَمْ يُوجَدْ، يَعْنِي أَنَّنَا نَعُدُّ هَذَا مِمَّا أَضَاعُوهُ وَنَسَوْهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. قَالَ وَالْجُمْلَةُ عِبَارَةٌ عَنِ اسْتِسْهَالِ الْعُقُوبَةِ وَالِاسْتِخْفَافِ بِهَا اتِّكَالًا عَلَى اتِّصَالِ نَسَبِهِمْ بِالْأَنْبِيَاءِ وَاعْتِمَادًا عَلَى مُجَرَّدِ الِانْتِسَابِ إِلَى الدِّينِ، وَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ ذَلِكَ كَافٍ فِي نَجَاتِهِمْ، وَمَنِ اسْتَخَفَّ بِوَعِيدِ الدِّينِ زَاعِمًا أَنَّهُ خَفِيفٌ فِي نَفْسِهِ أَوْ أَنَّهُ غَيْرُ وَاقِعٍ بِمَنْ يَسْتَحِقُّهُ حَتْمًا تَزُولُ حُرْمَةُ الْأَوَامِرِ

<<  <  ج: ص:  >  >>