وَتَعَالَى - صَاحِبُ السُّلْطَانِ الْأَعْلَى وَالتَّصَرُّفِ الْمُطْلَقِ فِي تَدْبِيرِ الْأَمْرِ وَإِقَامَةِ مِيزَانِ النِّظَامِ الْعَامِّ فِي الْكَائِنَاتِ، فَهُوَ يُؤْتِي الْمُلْكَ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ
عِبَادِهِ، إِمَّا بِالتَّبَعِ لِمَا يَخْتَصُّهُمْ بِهِ مِنَ النُّبُوَّةِ كَمَا وَقَعَ لِآلِ إِبْرَاهِيمَ، وَإِمَّا بِسَيْرِهِمْ عَلَى سُنَنِهِ الْحَكِيمَةِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى ذَلِكَ بِأَسْبَابِهِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ كَتَكْوِينِ الْعَصَبِيَّاتِ كَمَا وَقَعَ لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، وَيَنْزِعُهُ مِمَّنْ يَشَاءُ مِنَ الْأَفْرَادِ وَمِنَ الْأُسَرِ وَالْعَشَائِرِ وَالْفَصَائِلِ وَالشُّعُوبِ بِتَنَكُّبِهِمْ سُنَنَهُ الْحَافِظَةَ لِلْمُلْكِ، كَالْعَدْلِ وَحُسْنِ السِّيَاسَةِ وَإِعْدَادِ الْمُسْتَطَاعِ مِنَ الْقُوَّةِ كَمَا نَزَعَهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمِنْ غَيْرِهِمْ بِالظُّلْمِ وَالْفَسَادِ، ذَلِكَ أَنَّنَا لَا نَعْرِفُ مَا قَضَتْ بِهِ مَشِيئَتُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - إِلَّا مِنَ الْوَاقِعِ ; لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ فِي الْوُجُودِ إِلَّا مَا يَشَاءُ، وَقَدْ نَظَرْنَا فِيمَا وَقَعَ لِلْغَابِرِينَ وَالْحَاضِرِينَ وَمَحَّصْنَا أَسْبَابَهُ فَأَلْفَيْنَاهَا تَرْجِعُ إِلَى سُنَنٍ مُطَّرِدَةٍ كَمَا قَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا [٣: ١٣٧] الْآيَةَ. وَبَيَّنَ بَعْضَ هَذِهِ السُّنَنِ فِي نَزْعِ الْمُلْكِ مِمَّنْ يَشَاءُ وَإِيتَائِهِ مَنْ يَشَاءُ بِمِثْلِ قَوْلِهِ - تَعَالَى - مِنْ سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ [١٤: ١٣، ١٤] وَقَدْ فَصَّلْنَا هَذَا الْمَعْنَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَفْضَلَ تَفْصِيلٍ فَلْيُرَاجِعِ الْآيَةَ (٢٤٧) مَنْ شَاءَ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ وَجْهُ اتِّصَالِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وَكَوْنُهَا بِمَثَابَةِ الدَّلِيلِ لِقَوْلِهِ السَّابِقِ: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ فَهِيَ تَتَضَمَّنُ تَأْكِيدَ الْوَعْدِ بِنَصْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغَلْبِ أَعْدَائِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ.
وَقَدْ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ لِلْعَبَّاسِ يَوْمَ رَأَى جَيْشَ الْمُسْلِمِينَ زَاحِفًا إِلَى مَكَّةَ: لَقَدْ أَصْبَحَ مُلْكُ ابْنِ أَخِيكَ عَظِيمًا، فَقَالَ الْعَبَّاسُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: كَلَّا إِنَّهَا النُّبُوَّةُ، وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ يَعْنِي أَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ تَأْسِيسُ مُلْكٍ وَمَا كَانَ الْمُلْكُ مَقْصُودًا، وَلَكِنَّهُ جَاءَ مَعْنَاهُ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ تَابِعًا لَا أَصْلًا، وَالْفَرْقُ عَظِيمٌ، وَالْغَرَضُ مِنَ النُّبُوَّةِ غَيْرُ الْغَرَضِ مِنَ الْمُلْكِ ; وَلِذَلِكَ لَمْ يُسَمِّ الصَّحَابَةُ مَنْ جَعَلُوهُ رَئِيسَ مُلْكِهِمْ وَمَرْجِعَ سِيَاسَتِهِمْ مَلِكًا، بَلْ سَمَّوْهُ خَلِيفَةً.
وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ الْعِزُّ وَالذُّلُّ مَعْرُوفَانِ، وَمِنْ آثَارِ الْأَوَّلِ: حِمَايَةُ الْحَقِيقَةِ وَنَفَاذُ الْكَلِمَةِ، وَمِنْ أَسْبَابِهِ كَثْرَةُ الْأَعْوَانِ وَمِلْكُ الْقُلُوبِ بِالْجَاهِ وَالْعِلْمِ النَّافِعِ لِلنَّاسِ وَسَعَةُ الرِّزْقِ مَعَ التَّوْفِيقِ لِلْإِحْسَانِ، وَمِنْ آثَارِ الثَّانِي: الضَّعْفُ عَنِ الْحِمَايَةِ، وَالرِّضَى بِالضَّيْمِ وَالْمَهَانَةِ - كَذَا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ - وَقَدْ يَكُونُ الضَّعْفُ سَبَبًا وَعِلَّةً لِلذُّلِّ لَا أَثَرًا مَعْلُولًا وَهُوَ غَالِبٌ، وَلَا تَلَازُمَ بَيْنَ الْعِزِّ وَالْمُلْكِ، فَقَدْ يَكُونُ الْمَلِكُ ذَلِيلًا إِذَا ضَعُفَ
اسْتِقْلَالُهُ بِسُوءِ السِّيَاسَةِ وَفَسَادِ التَّدْبِيرِ، حَتَّى صَارَتِ الدُّوَلُ الْأُخْرَى تَفْتَاتُ عَلَيْهِ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ، وَكَمْ مِنْ ذَلِيلٍ فِي مَظْهَرِ عَزِيزٍ، وَكَمْ مِنْ أَمِيرٍ أَوْ مَلِكٍ يَغُرُّ الْأَغْرَارَ مَا يَرَوْنَهُ فِيهِ مِنَ الْأُبَّهَةِ وَالْفَخْفَخَةِ فَيَحْسَبُونَ أَنَّهُ عَزِيزٌ كَرِيمٌ وَهُوَ فِي نَفْسِهِ ذَلِيلٌ مَهِينٌ، فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ مُلُوكِ مَلَاهِي التَّمْثِيلِ (التَّيَاتْرَاتِ) وَالتَّشْبِيهُ لِلْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute