قَوْمٍ وَإِنَّ قُلُوبَنَا لَتَلْعَنُهُمْ " وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: " وَإِنَّ قُلُوبَنَا لَتُقْلِيهِمْ " أَيْ تُبْغِضُهُمْ. وَلَا يَجْهَلُ أَحَدٌ أَنَّ إِلَانَةَ الْقَوْلِ أَوِ الْكَشْرَ فِي الْوُجُوهِ، أَيِ التَّبَسُّمَ هُمَا مِنْ أَدَبِ الْمَجْلِسِ يَنْبَغِي بَذْلُهُمَا لِكُلِّ جَلِيسٍ، وَلَا يُعَدَّانِ مِنَ النِّفَاقِ وَلَا مِنَ الدِّهَانِ، وَلَا يُنَافِيَانِ أَمْرَ اللهِ لِنَبِيِّهِ بِالْإِغْلَاظِ عَلَى
الْكَافِرِينَ ; لِأَنَّهُ وَرَدَ فِي مَقَامِ الْأَمْرِ بِالْجِهَادِ لِدَفْعِ إِيذَائِهِمْ وَحِمَايَةِ الدَّعْوَةِ وَبَيَانِ حَقِيقَتِهَا، وَقَدْ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحْسَنَ النَّاسِ أَدَبًا فِي مَجْلِسِهِ وَحَدِيثِهِ.
وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مَعْنَاهُ عِقَابَ نَفْسِهِ، وَذَكَرَ النَّفْسَ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْوَعِيدَ صَادِرٌ مِنْهُ، وَهُوَ الْقَادِرُ عَلَى إِنْفَاذِهِ إِذْ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، وَسَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ الْجُمْلَةِ كَلَامٌ آخَرُ فِي الْآيَةِ الَّتِي تَلِي مَا بَعْدَ هَذِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ فَلَا مَهْرَبَ مِنْهُ. قَالُوا: وَفِيهِ تَهْدِيدٌ عَظِيمٌ يُشْعِرُ بِتَنَاهِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مِنَ الْمُوَالَاةِ فِي الْقُبْحِ.
ثُمَّ قَالَ: قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمُرَادُ بِمَا فِي الصُّدُورِ: مَا فِي الْقُلُوبِ مِنَ الِانْشِرَاحِ وَالْمَيْلِ لِلْكُفْرِ أَوِ الْكُرْهِ لَهُ وَالنُّفُورِ مِنْهُ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي الْآيَةِ الَّتِي ذَكَرْتُ آنِفًا: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا [١٦: ١٠٦] إِلَخْ، أَيْ أَنَّهُ - سُبْحَانَهُ - يَعْلَمُ مَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ نُفُوسُكُمْ وَمَا تَخْتَلِجُ بِهِ قُلُوبُكُمْ إِذْ تُوَالُونَ الْكَافِرِينَ أَوْ تُوَادُّونَهُمْ وَإِذْ تَتَّقُونَ مِنْهُمْ مَا تَتَّقُونَ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِمَيْلٍ إِلَى الْكُفْرِ جَازَاكُمْ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ قُلُوبُكُمْ مُطْمَئِنَّةً بِالْإِيمَانِ غَفَرَ لَكُمْ وَلَمْ يُؤَاخِذْكُمْ عَلَى عَمَلٍ لَا جِنَايَةَ فِيهِ عَلَى دِينِكُمْ وَلَا إِيذَاءَ لِأَهْلِهِ، فَهُوَ يُجَازِيكُمْ عَلَى حَسَبِ عِلْمِهِ الْمُحِيطِ بِمَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ; لِأَنَّهُ الْخَالِقُ لِمَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ [٦٧: ١٤] وَهَذَا كَالدَّلِيلِ عَلَى عِلْمِهِ بِمَا فِي صُدُورِهِمْ ; لِأَنَّهُ عَامٌّ وَدَلِيلُهُ ظَاهِرٌ فِي النِّظَامِ الْعَامِّ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَفَلَّتَ مِنْ قُدْرَتِهِ أَحَدٌ وَلَا يُعْجِزَهُ شَيْءٌ، وَهَذَا كَالشَّرْحِ لِقَوْلِهِ: وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ.
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مَعْنَاهُ: الْكَلَامُ تَتِمَّةٌ لِوَعِيدِ مَنْ يُوَالِي الْكَافِرِينَ نَاصِرًا إِيَّاهُمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمَعْنَى: اتَّقُوا وَاحْذَرُوا أَوْ لِتَحْذَرُوا يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ عَمَلَهَا مِنَ الْخَيْرِ مَهْمَا قَلَّ مُحْضَرًا، وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيرُ " اذْكُرْ " مُتَعَلِّقًا لِقَوْلِهِ: يَوْمَ تَجِدُ كَمَا فَعَلَ (الْجَلَالُ) . وَمَعْنَى كَوْنِهِ مُحْضَرًا أَنَّ فَائِدَتَهُ وَمَنْفَعَتَهُ تَكُونُ حَاضِرَةً لَدَيْهِ، وَأَمَّا عَمَلُ السُّوءِ فَتَوَدُّ كُلُّ نَفْسٍ اقْتَرَفَتْهُ لَوْ بَعُدَ عَنْهَا وَلَمْ تَرَهُ وَتُؤْخَذْ بِجَزَائِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَمَلَ الشَّرِّ يَكُونُ مُحْضَرًا أَيْضًا، وَلَكِنَّهُ عَبَّرَ عَنْهُ بِمَا ذَكَرَ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ إِحْضَارَهُ مُؤْذٍ لِصَاحِبِهِ يَوَدُّ لَوْ لَمْ يَكُنْ ; أَيْ وَمِنْهُ يُعْلَمُ أَنَّ إِحْضَارَ عَمَلِ
الْخَيْرِ يَكُونُ غِبْطَةً لِصَاحِبِهِ وَسُرُورًا. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ: إِنَّ هَذَا التَّعْبِيرَ ضَرْبٌ مِنَ التَّمْثِيلِ كَالْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ كُتُبِ الْأَعْمَالِ وَأَخْذِهَا بِالْأَيْمَانِ وَالشَّمَائِلِ، فَإِنَّ الْغَرَضَ مِنَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute