عِيسَى فِي الْحَمْلِ بِهِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةِ أَبٍ عَنْ ذَلِكَ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ قَدْ وُجِدَتْ فِي الْوَاقِعِ وَنَفْسِ الْأَمْرِ خَارِقَةً لِنِظَامِ الْأَسْبَابِ، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ أَنْ يَعْتَرِفُوا بِأَنَّ الْأَسْبَابَ الظَّاهِرَةَ الْمَعْرُوفَةَ لَيْسَتْ وَاجِبَةً وُجُوبًا عَقْلِيًّا مُطَّرِدًا، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ امْتَنَعَ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يُنْكِرَ شَيْئًا مَا وَيُعِدَّهُ مُسْتَحِيلًا لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ لَهُ سَبَبًا. وَلَعَلَّ أَبْنَاءَ الْعُصُورِ السَّابِقَةِ كَانُوا أَقْرَبَ إِلَى أَنْ يُعْذَرُوا بِإِنْكَارِ غَيْرِ الْمَأْلُوفِ مِنْ أَبْنَاءِ هَذَا الْعَصْرِ الَّذِي ظَهَرَ فِيهِ مِنْ أَعْمَالِ النَّاسِ مَا لَوْ حُدِّثَ بِهِ عُقَلَاءُ الْغَابِرِينَ لَعَدُّوهُ مِنْ خُرَافَاتِ الدَّجَّالِينَ، وَنَحْنُ نَرَى عُلَمَاءَ الْغَرْبِ وَفَلَاسِفَتَهُ مُتَّفِقِينَ عَلَى إِمْكَانِ التَّوَلُّدِ الذَّاتِيِّ، أَيْ تَوَلُّدِ الْحَيَوَانِ مِنْ غَيْرِ حَيَوَانٍ أَوْ مِنَ الْجَمَادِ، وَهُمْ يَبْحَثُونَ وَيُحَاوِلُونَ أَنْ يَصِلُوا إِلَى ذَلِكَ بِتَجَارِبِهِمْ، وَإِذَا كَانَ تَوَلُّدُ الْحَيَوَانِ مِنَ الْجَمَادِ جَائِزًا فَتَوَلُّدُ الْحَيَوَانِ
مِنْ حَيَوَانٍ وَاحِدٍ أَوْلَى بِالْجَوَازِ وَأَقْرَبُ إِلَى الْحُصُولِ. نَعَمْ إِنَّهُ خِلَافُ الْأَصْلِ وَإِنَّ كَوْنَهُ جَائِزًا لَا يَقْتَضِي وُقُوعَهُ بِالْفِعْلِ، وَنَحْنُ نَسْتَدِلُّ عَلَى وُقُوعِهِ بِالْفِعْلِ بِخَبَرِ الْوَحْيِ الَّذِي قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى صِدْقِهِ.
وَيُمْكِنُ تَقْرِيبُ هَذِهِ الْآيَةِ الْإِلَهِيَّةِ مِنَ السُّنَنِ الْمَعْرُوفَةِ فِي نِظَامِ الْكَائِنَاتِ بِوَجْهَيْنِ:
(الْوَجْهُ الْأَوَّلُ) : أَنَّ الِاعْتِقَادَ الْقَوِيَّ الَّذِي يَسْتَوْلِي عَلَى الْقَلْبِ وَيَسْتَحْوِذُ عَلَى الْمَجْمُوعِ الْعَصَبِيِّ يُحْدِثُ فِي عَالَمِ الْمَادَّةِ مِنَ الْآثَارِ مَا يَكُونُ عَلَى خِلَافِ الْمُعْتَادِ، فَكَمْ مِنْ سَلِيمٍ اعْتَقَدَ أَنَّهُ مُصَابٌ بِمَرَضِ كَذَا وَلَيْسَ فِي بَدَنِهِ شَيْءٌ مِنْ جَرَاثِيمِ هَذَا الْمَرَضِ، فَوَلَّدَ لَهُ اعْتِقَادُهُ تِلْكَ الْجَرَاثِيمَ الْحَيَّةَ وَصَارَ مَرِيضًا، وَكَمْ مِنَ امْرِئٍ سُقِيَ الْمَاءَ الْقَرَاحَ أَوْ نَحْوَهُ فَشَرِبَهُ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ سُمٌّ نَاقِعٌ فَمَاتَ مَسْمُومًا بِهِ، وَالْحَوَادِثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ أَثْبَتَتْهَا التَّجَارِبُ، وَإِذَا اعْتَبَرْنَا بِهَا فِي أَمْرِ وِلَادَةِ الْمَسِيحِ نَقُولُ: إِنَّ مَرْيَمَ لَمَّا بُشِّرَتْ بِأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - سَيَهَبُ لَهَا وَلَدًا بِمَحْضِ قُدْرَتِهِ، وَهِيَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنْ صِحَّةِ الْإِيمَانِ وَقُوَّةِ الْيَقِينِ، انْفَعَلَ مِزَاجُهَا بِهَذَا الِاعْتِقَادِ انْفِعَالًا فَعَلَ فِي الرَّحِمِ فِعْلَ التَّلْقِيحِ، كَمَا يَفْعَلُ الِاعْتِقَادُ الْقَوِيُّ فِي مِزَاجِ السَّلِيمِ فَيَمْرَضُ أَوْ يَمُوتُ، وَفِي مِزَاجِ الْمَرِيضِ فَيَبْرَأُ، وَكَانَ نَفْخُ الرُّوحِ الَّذِي وَرَدَ فِي سُورَةِ أُخْرَى مُتَمِّمًا لِهَذَا التَّأْثِيرِ.
(الْوَجْهُ الثَّانِي) : وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْحَقِّ - وَإِنْ كَانَ أَخْفَى وَأَدَقَّ - وَبَيَانُهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى مُقَدِّمَةٍ وَجِيزَةٍ فِي تَأْثِيرِ الْأَرْوَاحِ فِي الْأَشْبَاحِ، وَهِيَ أَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ قِسْمَانِ: أَجْسَامٌ كَثِيفَةٌ وَأَرْوَاحٌ لَطِيفَةٌ، وَأَنَّ اللَّطِيفَ هُوَ الَّذِي يُحْدِثُ فِي الْكَثِيفِ الْحَيِّ مَا نَرَاهُ فِيهِ مِنَ النُّمُوِّ وَالْحَرَكَةِ وَالتَّوَالُدِ الَّذِي يَكُونُ مِنَ النُّمُوِّ أَوْ يَكُونُ النُّمُوُّ مِنْهُ، فَلَوْلَا الْهَوَاءُ لَمَا عَاشَتْ هَذِهِ الْأَحْيَاءُ، وَالْهَوَاءُ رُوحٌ وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ أَسْمَائِهِ إِذَا تَحَرَّكَ الرِّيحُ، وَأَصْلُهَا " رِوْحُ " بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَلِأَجْلِ الْكَسْرِ قُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِتُنَاسِبَهُ، وَالْمَاءُ الَّذِي مِنْهُ كُلُّ شَيْءٍ حَيٍّ مُرَكَّبٌ مِنْ رُوحَيْنِ لَطِيفَيْنِ، وَهُوَ يَكَادُ يَكُونُ فِي حَالِ التَّرْكِيبِ وَسَطًا بَيْنَ الْكَثِيفِ وَاللَّطِيفِ وَلَكِنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الثَّانِي، وَالْكَهْرُبَائِيَّةُ مِنَ الْأَرْوَاحِ وَنَاهِيكَ بِفِعْلِهَا فِي الْأَشْبَاحِ، فَهَذِهِ الْمَوْجُودَاتُ اللَّطِيفَةُ الَّتِي سَمَّيْنَاهَا أَرْوَاحًا هِيَ الَّتِي تُحْدِثُ مُعْظَمَ التَّغَيُّرِ الَّذِي نُشَاهِدُهُ فِي الْكَوْنِ، حَتَّى إِنَّنَا قَدْ رَأَيْنَا فِي هَذَا الْعَصْرِ مِنْ أَسْرَارِهَا مَا لَمْ يَكُنْ يَخْطِرُ عَلَى بَالِ أَحَدٍ مِنْ قُدَمَاءَ فَلَاسِفَتِنَا، وَيَعْتَقِدُ عُلَمَاؤُنَا الْيَوْمَ أَنَّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute