الْمُكَابَرَةِ وَالْمُكَايَدَةِ لِلتَّنْفِيرِ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَأَهْلُ الْجَحُودِ وَالْكَيْدِ لَا يُكَابِرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِيمَا هُوَ حُجَّةٌ لِلْمُخَالِفِ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا، وَإِنَّمَا يُكَابِرُونَ الْمُخَالِفِينَ.
ثُمَّ قَالَ النَّيْسَابُورِيُّ: فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ وَقَعَ قَوْلُهُ: قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ بَيْنَ جُزْئَيْ كَلَامٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا لَا يَلِيقُ بِكَلَامِ الْفُصَحَاءِ؟ قُلْتُ: قَالَ الْقَفَّالُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا كَلَامًا أَمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ أَنْ يَقُولَهُ عِنْدَمَا وَصَلَ الْكَلَامُ إِلَى هَذَا الْحَدِّ، كَأَنَّهُ لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ قَوْلًا بَاطِلًا لَا جَرَمَ، أَدَّبَ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنْ يُقَابِلَهُ بِقَوْلٍ حَقٍّ ثُمَّ يَعُودَ إِلَى حِكَايَةِ تَمَامِ كَلَامِهِمْ ; كَمَا إِذَا حَكَى الْمُسْلِمُ عَنْ بَعْضِ الْكُفَّارِ قَوْلًا فِيهِ كُفْرٌ فَيَقُولُ عِنْدَ بُلُوغِهِ إِلَى تِلْكَ الْكَلِمَةِ: آمَنْتُ بِاللهِ، أَوْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، أَوْ تَعَالَى اللهُ ثُمَّ يَعُودُ إِلَى تِلْكَ الْحِكَايَةِ. اهـ.
أَقُولُ: وَيَجُوزُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ الْمَحْذُوفَةُ مِنْ أَنْ يُؤْتَى لِلسَّبَبِيَّةِ وَيَكُونَ الْمَعْنَى: آمِنُوا وَجْهَ النَّهَارِ مُخَادَعَةً وَاكْفُرُوا آخِرَهُ مُكَايَدَةً، وَلَا تُؤْمِنُوا إِيمَانًا حَقِيقِيًّا ثَابِتًا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ وَأَقَرَّكُمْ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ بِسَبَبِ إِتْيَانِ أَحَدٍ كَمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْوَحْيِ، أَوْ بِسَبَبِ مَا يُخْشَى مِنْ مُحَاجَّتِهِ
لَكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ فِي الْآخِرَةِ. وَالسَّبَبِيَّةُ مُعَلَّقَةٌ بِالنَّهْيِ، أَيْ لَا يَكُنْ إِتْيَانُ مُحَمَّدٍ بِدِينٍ حَقٍّ وَشَرْعٍ إِلَهِيٍّ كَالَّذِي أُوتِيتُمُوهُ عَلَى لِسَانِ مُوسَى سَبَبًا فِي الْإِيمَانِ لَهُ.
وَأَمَّا قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ بِالِاسْتِفْهَامِ: فَأَقْرُبُ مَا تُفَسَّرُ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ - أَيْ وَجْهِ كَوْنِ الْكَلَامِ حِكَايَةً عَنِ الْيَهُودِ - أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمَصْدَرَ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ أَنْ يُؤْتَى مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ لِلْعِلْمِ بِهِ مِنْ قَرِينَةِ الْحَالِ وَالْخِطَابِ. وَالْمَعْنَى: أَإِتْيَانُ أَحَدٍ بِمِثْلِ مَا أُوتِيتُمْ يَحْمِلُكُمْ عَلَى الْإِيمَانِ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَتَّبِعْ دِينَكُمْ؟ أَيْ إِنَّ هَذَا مُنْكَرٌ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ، وَلَمْ أَرَ هَذَا وَلَا مَا قَبْلَهُ لِأَحَدٍ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ مِنْ كَلَامِ اللهِ - تَعَالَى - بِنَاءً عَلَى أَنَّ حِكَايَةَ كَلَامِ الْيَهُودِ قَدِ انْتَهَتْ بِقَوْلِهِ: دِينَكُمْ وَعَلَى هَذَا تَكُونُ قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ أَظْهَرَ. وَتَقْرِيرُ الْمَعْنَى عَلَيْهَا: أَتَكِيدُونَ هَذَا الْكَيْدَ كَرَاهَةَ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مَا أُوتِيتُمْ؟ أَوْ: أَإِيتَاءُ أَحَدٍ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ يَحْمِلُكُمْ عَلَى ذَلِكَ الْبَاطِلِ؟ وَيُحْتَمَلُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: أَوْ يُحَاجُّوكُمْ بِمَعْنَى حَتَّى يُحَاجُّوكُمْ، إِذْ وَرَدَتْ (أَوْ) بِمَعْنَى " حَتَّى " أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ كَمَا قِيلَ. أَوِ التَّقْدِيرُ: أَلِأَجْلِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ وَلَمَّا يَتَّصِلْ بِذَلِكَ مُحَاجَّتُكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ كِدْتُمْ ذَلِكَ الْكَيْدَ؟ يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ فَيَجُوزُ أَنْ تُحْمَلَ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، لِأَنَّ أَدَاةَ الِاسْتِفْهَامِ يَجُوزُ حَذْفُهَا اسْتِغْنَاءً عَنْهَا بِلَحْنِ الْقَوْلِ وَكَيْفِيَّةِ الْأَدَاءِ. وَيَجُوزُ فِيهَا وُجُوهٌ أُخْرَى أَظْهَرُهَا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: قُلْ إِنَّ الْهُدَى الَّذِي هُوَ هُدَى اللهِ هُوَ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ وَيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ فِي الْآخِرَةِ، أَيْ وَذَلِكَ جَائِزٌ دَاخِلٌ فِي مَشِيئَةِ اللهِ فَلَا وَجْهَ لِإِنْكَارِهِ ; وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ فَالْكَلَامُ كُلُّهُ رَدٌّ عَلَيْهِمْ مِنَ اللهِ - تَعَالَى -.
وَأَقْوَى هَذِهِ الْوُجُوهِ مَا يُوَافِقُ الْقِرَاءَتَيْنِ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: قُلْ إِنَّ الْهُدَى إِلَى آخِرِ الْآيَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute