وَجَعَلُوا لَتُؤْمِنُنَّ سَادًّا مَسَدَّ جَوَابِ الْقَسَمِ وَجَوَابِ الشَّرْطِ جَمِيعًا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا مَوْصُولَةً وَالْعَائِدُ حِينَئِذٍ مَحْذُوفٌ أَيْ: لَمَا آتَيْتُكُمُوهُ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ " لِمَا " بِكَسْرِ اللَّامِ وَهِيَ لَامُ التَّعْلِيلِ وَ " مَا " عَلَى هَذِهِ مَوْصُولَةٌ حَتْمًا. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَخَذَ مِيثَاقَهُمْ لِأَجْلِ مَا ذَكَرَ. وَقَرَأَ نَافِعٌ " آتَيْنَاكُمْ " بِالْإِسْنَادِ إِلَى ضَمِيرِ الْجَمْعِ تَفْخِيمًا. وَقَوْلُهُ: ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ فِيهِ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: لَفْظُ " رَسُولٍ " فِيهِ عَلَى إِطْلَاقِهِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ هَنَا مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَيَرُدُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِشْكَالٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمِيثَاقَ قَدْ أُخِذَ عَلَى النَّبِيِّينَ أَنْفُسِهِمْ وَهُوَ أَنَّ هَذَا الرَّسُولَ مَا جَاءَ فِي عَصْرِ أَحَدٍ مِنْهُمْ.
وَكَانَ اللهُ - تَعَالَى - يَعْلَمُ ذَلِكَ عِنْدَ أَخْذِ الْمِيثَاقِ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ عِلْمَهُ أَزَلِيٌّ أَبَدِيٌّ. وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ مِيثَاقٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الْفَرْضِ أَيْ إِذَا فُرِضَ أَنْ جَاءَكُمْ وَجَبَ عَلَيْكُمُ الْإِيمَانُ بِهِ وَنَصْرُهُ.
أَقُولُ: وَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْهُ بَيَانَ مَرْتَبَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ النَّبِيِّينَ إِذَا فُرِضَ أَنْ وُجِدَ فِي عَصْرِهِمْ، وَهُوَ أَنَّهُ يَكُونُ الرَّئِيسَ الْمَتْبُوعَ لَهُمْ ; فَمَا قَوْلُكُ إِذًا فِي أَتْبَاعِهِمْ لَا سِيَّمَا بَعْدَ زَمَنِهِمْ؟ وَإِنَّمَا كَانَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا الِاخْتِصَاصُ لِأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - قَضَى فِي سَابِقِ عِلْمِهِ بِأَنْ يَكُونَ هُوَ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ الَّذِي يَجِيءُ بِالْهُدَى الْأَخِيرِ الْعَامِّ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ الْبَشَرُ بَعْدَهُ إِلَى شَيْءٍ مَعَهُ سِوَى اسْتِعْمَالِ عُقُولِهِمْ وَاسْتِقْلَالِ أَفْكَارِهِمْ، وَأَنْ يَكُونَ مَا قَبْلَهُ مِنَ الشَّرَائِعِ الَّتِي يَجِيئُونَ بِهَا هِدَايَةً مَوْقُوتَةً خَاصَّةً بِقَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ. وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّسُولِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحُجَجٍ مِنْهَا حَدِيثُ وَاللهِ لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ مَا حَلَّ لَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ.
وَأَمَّا الْمَعْنَى عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مَعَ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمِيثَاقَ أُخِذَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ فَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْقَصْدُ مِنْ إِرْسَالِهِمْ وَاحِدًا وَجَبَ أَنْ يَكُونُوا مُتَكَافِلِينَ مُتَنَاصِرِينَ إِذَا جَاءَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فِي زَمَنِ آخَرَ آمَنَ بِهِ وَنَصَرَهُ بِمَا اسْتَطَاعَ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مُتَّبِعًا لِشَرِيعَتِهِ، كَمَا آمَنَ لُوطٌ لِإِبْرَاهِيمَ وَأَيَّدَ دَعْوَتَهُ إِذْ كَانَ فِي زَمَنِهِ.
وَكُلٌّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ حُجَّةٌ عَلَى الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الدِّينَ سَبَبًا لِلْخِلَافِ وَالنِّزَاعِ وَالْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، كَمَا فَعَلَ أَهْلُ الْكِتَابِ فِي عَدَاوَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْكَيْدِ لَهُ فَكَانَ يَدْعُوهُمْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ فَلَا يَلْقَى مِنْهُمْ إِلَّا الْخِلَافَ وَالشَّحْنَاءَ.
وَسُئِلَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ عَنْ إِيمَانِ نَبِيٍّ بِنَبِيٍّ آخَرَ يُبْعَثُ فِي عَصْرِهِ هَلْ يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ نَسْخَ الثَّانِي لِشَرِيعَةِ الْأَوَّلِ؟ فَقَالَ لَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ وَلَا يُنَافِيهِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ تَصْدِيقُ دَعْوَتِهِ وَنَصْرِهِ عَلَى مَنْ يُؤْذِيهِ وَيُنَاوِئُهُ فَإِنْ تَضَمَّنَتْ شَرِيعَةُ الثَّانِي نَسْخَ شَيْءٍ مِمَّا جَاءَ بِهِ الْأَوَّلُ وَجَبَ التَّسْلِيمُ لَهُ وَإِلَّا صَدَّقَهُ بِالْأُصُولِ الَّتِي هِيَ وَاحِدَةٌ فِي كُلِّ دِينٍ، وَيُؤَدِّي كُلُّ وَاحِدٍ مَعَ أُمَّتِهِ أَعْمَالَ عِبَادَتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ وَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ اخْتِلَافًا وَتَفَرُّقًا فِي الدِّينِ، فَإِنَّ مِثْلَهُ يَأْتِي فِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute