الْقَبُولِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ.
أَقُولُ: وَمَا قَدَّرْنَاهُ أَظْهَرُ وَبِالنَّظْمِ أَلْيَقُ. قَالَ الرَّازِيُّ بَعْدَ إِيرَادِ رَأْيِ الزَّجَّاجِ: (الثَّانِي) الْوَاوُ دَخَلَتْ لِبَيَانِ التَّفْصِيلِ بَعْدَ الْإِجْمَالِ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا يَحْتَمِلُ الْوُجُوهَ الْكَثِيرَةَ، فَنَصَّ عَلَى نَفْيِ الْقَبُولِ بِجِهَةِ الْفِدْيَةِ. أَقُولُ: وَلَوْ قَالَ التَّخْصِيصَ بَعْدَ التَّعْمِيمِ لَكَانَ أَظْهَرَ، لِأَنَّ ذِكْرَ وَاحِدٍ مِمَّا يَتَنَاوَلُهُ أَوْ يَحْتَمِلُهُ الْمُجْمَلُ لَيْسَ تَفْصِيلًا لَهُ. ثُمَّ قَالَ: (الثَّالِثُ) وَهُوَ وَجْهٌ خَطَرَ بِبَالِي وَهُوَ أَنَّ مَنْ غَضِبَ عَلَى بَعْضِ عَبِيدِهِ فَإِذَا أَتْحَفَهُ ذَلِكَ الْعَبْدُ بِتُحْفَةٍ وَهَدِيَّةٍ لَمْ يَقْبَلْهَا أَلْبَتَّةَ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ يَقْبَلُ الْفِدْيَةَ فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ الْفِدْيَةَ أَيْضًا كَانَ ذَلِكَ غَايَةَ الْغَضَبِ، وَالْمُبَالَغَةُ إِنَّمَا تَحْصُلُ بِتِلْكَ الْمَرْتَبَةِ الَّتِي هِيَ الْغَايَةُ، فَحَكَمَ اللهُ - تَعَالَى - بِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ مِنْهُمْ مِلْءَ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوْ كَانَ وَاقِعًا عَلَى سَبِيلِ الْفِدَاءِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مَقْبُولًا بِهَذَا الطَّرِيقِ فَبِأَلَّا يَكُونَ مَقْبُولًا مِنْهُ بِسَائِرِ الطُّرُقِ أَوْلَى. اهـ. وَفِي الْكَشَّافِ: هُوَ كَلَامٌ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى كَأَنَّهُ قِيلَ: فَلَنْ تُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ فِدْيَةٌ وَلَوِ افْتَدَى بِمِلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ وَلَوِ افْتَدَى بِمِثْلِهِ - وَأَوْرَدَ لِذَلِكَ شَوَاهِدَ وَأَمْثِلَةً ثُمَّ قَالَ - وَأَنْ يُرَادَ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا كَانَ قَدْ تَصَدَّقَ بِهِ وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أَيْضًا لَمْ يُقْبَلْ. اهـ.
لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ
ذَكَرَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّهُ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ سِيقَ لِبَيَانِ مَا يَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ وَيُقْبَلُ مِنْهُمْ إِثْرَ بَيَانِ مَا لَا يَنْفَعُ الْكَافِرِينَ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ. وَذَهَبَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ إِلَى أَنَّ
الْخِطَابَ لَا يَزَالُ لِأَهْلِ الْكِتَابِ. ذَلِكَ أَنَّ مِنْ سُنَّةِ الْقُرْآنِ أَنْ يَقْرِنَ الْكَلَامَ فِي الْإِيمَانِ بِذِكْرِ آثَارِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. وَأَدَلُّهَا عَلَيْهِ بَذْلُ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَلَمَّا حَاجَّ أَهْلَ الْكِتَابِ فِي دَعَاوِيهِمْ فِي الْإِيمَانِ وَالنُّبُوَّةِ وَكَوْنِهِمْ شَعْبَ اللهِ الْخَاصَّ وَكَوْنِ النُّبُوَّةِ مَحْصُورَةً فِيهِمْ، وَكَوْنِهِمْ لَا تَمَسُّهُمُ النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ خَاطَبَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِآيَةِ الْإِيمَانِ وَمِيزَانِهِ الصَّحِيحِ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ الْمَرْجُوحُ وَالرَّجِيحُ، وَهُوَ الْإِنْفَاقُ فِي سَبِيلِ اللهِ مِنَ الْمَحْبُوبَاتِ مَعَ الْإِخْلَاصِ وَحُسْنِ النِّيَّةِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّكُمْ أَيُّهَا الْمُدَّعُونَ لِتِلْكَ الدَّعَاوِي وَالْمُفْتَخِرُونَ بِالْكِتَابِ الْإِلَهِيِّ وَاتِّصَالِ حَبْلِ النَّسَبِ بِالنَّبِيِّينَ قَدْ أُحْضِرَتْ أَنْفُسُكُمُ الشُّحُّ وَآثَرْتُمْ شَهْوَةَ الْمَالِ عَلَى مَرْضَاةِ اللهِ وَإِذَا أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ شَيْئًا مَا فَإِنَّمَا يُنْفِقُ مِنْ أَرْدَأِ مَا يَمْلِكُ وَأَبْغَضِهِ إِلَيْهِ وَأَكْرَهِهِ عِنْدَهُ ; لِأَنَّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute