قَالُوا: إِذَا كُنْتَ يَا مُحَمَّدُ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ - كَمَا تَدَّعِي - فَكَيْفَ تَسْتَحِلُّ مَا كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ كَلَحْمِ الْإِبِلِ؟ أَمَا وَقَدِ اسْتَبَحْتَ مَا كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِمْ فَلَا يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَدَّعِيَ أَنَّكَ مُصَدِّقٌ لَهُمْ وَمُوَافِقٌ فِي الدِّينِ، وَلَا أَنْ تَخُصَّ إِبْرَاهِيمَ بِالذِّكْرِ وَتَقُولَ: إِنَّكَ أَوْلَى النَّاسِ بِهِ. هَذِهِ هِيَ الشُّبْهَةُ الْأُولَى. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَهِيَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ اللهَ وَعَدَ إِبْرَاهِيمَ بِأَنْ تَكُونَ الْبَرَكَةُ فِي نَسْلِ وَلَدِهِ إِسْحَاقَ، وَجَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْحَاقَ كَانُوا يُعَظِّمُونَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَيُصَلُّونَ إِلَيْهِ، فَلَوْ كُنْتَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ لَعَظَّمْتَ مَا عَظَّمُوا، وَلَمَا تَحَوَّلْتَ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَعَظَّمْتَ مَكَانًا آخَرَ اتَّخَذْتَهُ مُصَلًّى وَقِبْلَةً - وَهُوَ الْكَعْبَةُ - فَخَالَفْتَ الْجَمِيعَ.
فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ هُوَ جَوَابٌ عَنِ الشُّبْهَةِ الْأُولَى، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَلَكِنَّ الْجَلَالَ وَكَثِيرًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ يُقَرِّرُونَ الشُّبْهَةَ وَلَا يُبَيِّنُونَ وَجْهَ دَفْعِهَا بَيَانًا مُقْنِعًا، إِذْ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ بَعْضَ الطَّيِّبَاتِ كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَى إِسْرَائِيلَ، وَالصَّوَابُ مَا قَصَّهُ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي تُوَضِّحُهَا، وَهِيَ أَنَّ كُلَّ الطَّعَامِ كَانَ حَلَالًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَلِإِبْرَاهِيمَ مِنْ قَبْلُ بِالْأَوْلَى، ثُمَّ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِمْ بَعْضَ الطَّيِّبَاتِ فِي التَّوْرَاةِ عُقُوبَةً لَهُمْ وَتَأْدِيبًا، كَمَا قَالَ: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [٤: ١٦٠] الْآيَةَ. فَالْمُرَادُ بِإِسْرَائِيلَ شَعْبُ إِسْرَائِيلَ، كَمَا هُوَ مُسْتَعْمَلٌ عِنْدَهُمْ، لَا يَعْقُوبُ نَفْسُهُ. وَمَعْنَى تَحْرِيمِ الشَّعْبِ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ: أَنَّهُ ارْتَكَبَ الظُّلْمَ وَاجْتَرَحَ السَّيِّئَاتِ الَّتِي كَانَتْ سَبَبَ التَّحْرِيمِ، كَمَا صَرَّحَتِ الْآيَةُ. فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: إِذَا كَانَ الْأَصْلُ فِي الْأَطْعِمَةِ الْحِلَّ، وَكَانَ تَحْرِيمُ مَا حَرُمَ عَلَى إِسْرَائِيلَ تَأْدِيبًا عَلَى جَرَائِمَ أَصَابُوهَا، وَكَانَ النَّبِيُّ وَأُمَّتُهُ لَمْ يَجْتَرِحُوا تِلْكَ السَّيِّئَاتِ، فَلَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِمُ الطَّيِّبَاتُ؟ ثُمَّ قَالَ مُبَيِّنًا تَقْرِيرَ الدَّفْعِ وَسَنَدَهُ: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنَّ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي قَوْلِكُمْ ; لَا تَخَافُونَ أَنْ تُكَذِّبَكُمْ نُصُوصُهَا.
أَقُولُ: كَأَنَّهُ يَقُولُ: أَمَا إِنَّكُمْ لَوْ جِئْتُمْ بِمَا عِنْدَكُمْ مِنْهَا لَمَا كَانَ إِلَّا مُؤَيِّدًا لِلْقُرْآنِ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ أَنَّهَا هِيَ حَرَّمَتْ عَلَيْكُمْ مَا حَرَّمْتُ. وَعُلِّلَتْ جُمْلَةُ التَّكَالِيفِ بِأَنَّكُمْ شَعْبٌ غَلِيظُ الرَّقَبَةِ مُتَمَرِّدٌ يُقَاوِمُ الرَّبَّ، كَمَا قَالَ مُوسَى عِنْدَ أَخْذِ الْعَهْدِ عَلَيْكُمْ بِحِفْظِ الشَّرِيعَةِ (اقْرَأِ
الْفَصْلَ ٣١ مِنْ سِفْرِ التَّثْنِيَةِ) وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ فُصُولِ التَّوْرَاةِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَمَّا قَوْلُ الْجَلَالِ وَغَيْرِهِ: إِنَّ يَعْقُوبَ كَانَ بِهِ عِرْقُ النَّسَا - بِالْفَتْحِ وَالْقَصْرِ - فَنَذَرَ إِنْ شُفِيَ لَا يَأْكُلُ لَحْمَ الْإِبِلِ، فَهُوَ دَسِيسَةٌ مِنَ الْيَهُودِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ نَذَرَ أَلَّا يَأْكُلَ هَذَا الْعِرْقَ. وَفِي التَّوْرَاةِ أَنَّ يَعْقُوبَ الْتَقَى فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ بِالرَّبِّ فِي الطَّرِيقِ فَتَصَارَعَا إِلَى الصَّبَاحِ، وَكَادَ يَعْقُوبُ يَغْلِبُهُ، وَلَكِنِ اعْتَرَاهُ عِرْقُ النَّسَا. إِلَخْ مَا حَرَّفُوهُ. أَقُولُ: وَتَتِمَّةُ الْعِبَارَةِ - كَمَا فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ - ((٣٢: ٢٥)) وَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ ضَرَبَ حُقَّ فَخِذِهِ فَانْخَلَعَ حُقُّ فَخِذِ يَعْقُوبَ فِي مُصَارَعَتِهِ مَعَهُ [٢٦] وَقَالَ أَطْلِقْنِي لِأَنَّهُ قَدْ طَلَعَ الْفَجْرُ. فَقَالَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute