للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا الْآيَةَ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: غَرِيبٌ فِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ، وَالْحَارِثُ يُضَعَّفُ. وَهِلَالُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الرَّاوِي لَهُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ مَجْهُولٌ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ تَعَدُّدَ طُرُقِ الْحَدِيثِ تَرْتَقِي بِهِ إِلَى دَرَجَةِ الْحَسَنِ لِغَيْرِهِ كَمَا يَقُولُونَ فِي مِثْلِهِ، وَلَا يَقْدَحُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الْعَقِيلِيِّ والدَّارَقُطْنِيِّ: لَا يَصِحُّ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ ; إِذْ لَا نَدَّعِي أَنَّ هُنَا شَيْئًا صَحِيحًا، وَأَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ أَثَرُ عُمَرَ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ قَالَ: " لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَبْعَثَ رِجَالًا إِلَى هَذِهِ الْأَمْصَارِ فَيَنْظُرُوا كُلَّ مَنْ كَانَ لَهُ جِدَةٌ فَيَضْرِبُوا عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ، مَا هُمْ بِمُسْلِمِينَ مَا هُمْ بِمُسْلِمِينَ " وَاسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الرِّوَايَاتِ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ، وَبِهِ قَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْأَثَرِ، وَالْآخَرُونَ يَقُولُونَ: إِنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي. وَالِاحْتِيَاطُ أَلَّا يُؤَخِّرَ الْمُسْتَطِيعُ الْحَجَّ بِغَيْرِ عُذْرٍ صَحِيحٍ لِئَلَّا يُفَاجِئَهُ الْمَوْتُ قَبْلَ ذَلِكَ.

أَقُولُ: إِنَّ الْآيَةَ تَشْتَمِلُ عَلَى مَزَايَا وَآيَاتٍ لِبَيْتِ اللهِ الْحَرَامِ. فَالْمَزَايَا كَوْنُهُ أَوَّلَ مَسْجِدٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ، وَكَوْنُهُ مُبَارَكًا، وَكَوْنُهُ هُدًى لِلْعَالَمِينَ. وَالْآيَاتُ: مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَأَمْنُ دَاخِلِهِ، وَالْحَجُّ إِلَيْهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَيَذْكُرُ لَهُ الْمُفَسِّرُونَ هُنَا خَصَائِصَ وَمَزَايَا يَعُدُّونَهَا مِنَ الْآيَاتِ عَلَى تَقْدِيرِ " مِنْهَا مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ " وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا هِيَ الْآيَاتُ وَإِنَّ قَوْلَهُ: مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ كَلَامٌ مُسْتَقِلٌّ. قَالَ الرَّازِيُّ: فَكَأَنَّهُ قَالَ: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ، وَمَعَ ذَلِكَ هُوَ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَقَرُّهُ وَالْمَوْضِعُ الَّذِي اخْتَارَهُ وَعَبَدَ اللهَ فِيهِ. اهـ. وَلَعَلَّ الدَّافِعَ لَهُمْ إِلَى هَذَا فَهْمُهُمْ أَنَّ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ تَفْسِيرٌ لِلْآيَاتِ وَهُوَ مُفْرَدٌ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ مَا بَعْدَهُ تَابِعٌ لَهُ فِي ذَلِكَ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ: مُحَاوَلَةُ الْآخَرِينَ أَنْ يَجْعَلُوا مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ بِمَنْزِلَةِ عِدَّةِ آيَاتٍ. قَالَ الرَّازِيُّ: إِنَّ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ اشْتَمَلَ عَلَى الْآيَاتِ ; لِأَنَّ أَثَرَ الْقَدَمِ فِي الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ آيَةٌ، وَغَوْصَهُ فِيهَا إِلَى الْكَعْبَيْنِ آيَةٌ، وَإِلَانَةَ بَعْضِ الصَّخْرَةِ دُونَ بَعْضٍ آيَةٌ ; لِأَنَّهُ لَانَ مِنَ الصَّخْرَةِ مَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ فَقَطْ، وَإِبْقَاؤُهُ دُونَ سَائِرِ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - آيَةٌ خَاصَّةٌ لِإِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَحِفْظُهُ مَعَ كَثْرَةِ أَعْدَائِهِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ أُلُوفَ السِّنِينَ آيَةٌ. فَثَبَتَ أَنَّ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - آيَاتٌ كَثِيرَةٌ. اهـ.

أَقُولُ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [٢: ١٢٥] أَنَّ بَعْضَهُمْ يَقُولُ: إِنَّ مَقَامَهُ عِبَارَةٌ عَنْ مَوْقِفِهِ حَيْثُ ذَلِكَ الْأَثَرِ لِلْقَدَمَيْنِ وَإِنَّ هَذَا ضَعِيفٌ. وَالْكَلَامُ هُنَا فِي أَنَّ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَثَرِ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، أَمَّا الْأَثَرُ نَفْسُهُ فَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ تَعْتَقِدُ أَنَّهُ قَدَمَيْ إِبْرَاهِيمَ، كَمَا قَالَ أَبُو طَالِبٍ فِي لَامِيَّتِهِ:

وَمَوْطِئُ إِبْرَاهِيمَ فِي الصَّخْرِ رَطْبَةٌ ... عَلَى قَدَمَيْهِ حَافِيًا غَيْرَ نَاعِلِ

وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ: " رَطْبَةٌ " أَنَّ الصَّخْرَةَ كَانَتْ عِنْدَمَا وَطِئَ عَلَيْهَا رَطْبَةً لَمْ تَتَحَجَّرْ ثُمَّ تَحَجَّرَتْ بَعْدَ ذَلِكَ وَبَقِيَ أَثَرُ قَدَمَيْهِ فِيهَا ; وَعَلَى هَذَا لَا يَظْهَرُ مَعْنَى كَوْنِهِ آيَةً إِلَّا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي جَرَيْنَا عَلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ دُونَ مَا جَرَى عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ كَوْنِ الْآيَاتِ بِمَعْنَى

<<  <  ج: ص:  >  >>