فِي الْعُقُولِ وَالْأَفْهَامِ مِمَّا لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ وَلَا مَطْمَعَ فِيهِ، إِذْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْحُبِّ وَالْبُغْضِ، فَالْإِخْوَةُ الْأَشِقَّاءُ فِي الْبَيْتِ الْوَاحِدِ تَخْتَلِفُ أَفْهَامُهُمْ فِي الشَّيْءِ كَمَا يَخْتَلِفُ حُبُّهُمْ لَهُ وَمَيْلُهُمْ إِلَيْهِ.
وَأَمَّا الثَّانِي: - وَهُوَ مَا جَاءَتِ الْأَدْيَانُ لِمَحْوِهِ - فَهُوَ تَحْكِيمُ الْأَهْوَاءِ فِي الدِّينِ وَالْأَحْكَامِ، وَهُوَ أَشَدُّ الْأَشْيَاءِ ضَرَرًا فِي الْبَشَرِ ; لِأَنَّهُ يَطْمِسُ أَعْلَامَ الْهِدَايَةِ الَّتِي يَلْجَأُ إِلَيْهَا فِي إِزَالَةِ الْمَضَارِّ الَّتِي فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ مِنَ الْخِلَافِ.
أَمَّا كَوْنُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ غَيْرُ ضَارٍّ فَهُوَ مَا يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ نَفْسِهِ، ذَكَرَ ذَلِكَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ وَضَرَبَ لَهُ الْمَثَلَ بِنَفْسِهِ، فَقَالَ مَا مِثَالُهُ: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَ بَعْضِ أَصْحَابِي الصَّادِقِينَ فِي مَحَبَّتِي وَإِرَادَةِ الْخَيْرِ لِي خِلَافًا فِي إِلْقَاءِ هَذَا الدَّرْسِ هُنَا، فَأَنَا أَعْتَقِدُ أَنَّ إِلْقَاءَ دَرْسِ التَّفْسِيرِ فِي الْأَزْهَرِ عَمَلٌ وَاجِبٌ عَلَيَّ وَخَيْرٌ لِي، وَلَا أَشُكُّ فِي هَذَا كَمَا أَنَّنِي لَا أَشُكُّ فِي هَذَا الضَّوْءِ الَّذِي أَمَامِي، وَيُوجَدُ مِنْ أَصْحَابِي مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ تَرْكَ هَذَا الدَّرْسِ خَيْرٌ لِي مِنْ قِرَاءَتِهِ، وَيُحَاجُّونِي فِي ذَلِكَ قَائِلِينَ: إِنَّ تَأَخُّرِي لِأَجْلِ الدَّرْسِ إِلَى اللَّيْلِ ضَارٌّ بِصِحَّتِي وَإِنَّهُ مُثِيرٌ لِحَسَدِ الْحَاسِدِينَ لِي، وَدَافِعٌ لَهُمْ إِلَى الْكَيْدِ وَالْإِيذَاءِ، وَأَنَّ الدَّرْسَ نَفْسَهُ عَقِيمٌ ; لِأَنَّ أَكْثَرَ الَّذِينَ يَسْمَعُونَهُ لَا يَفْقَهُونَ مَا أَقُولُ وَلَا يَفْهَمُونَ، وَمَنْ فَهِمَ لَا يُرْجَى أَنْ يَعْمَلَ بِهِ لِغَلَبَةِ فَسَادِ الْأَخْلَاقِ، هَذِهِ حُجَّةُ بَعْضِ أَصْحَابِي فِي مُخَالَفَةِ رَأْيِي وَاعْتِقَادِي يُصَرِّحُونَ لِي بِهَا، وَمَعَ ذَلِكَ أَلْقَاهُمْ وَيَلْقَوْنَنِي لَمْ يُنْقِصْ ذَلِكَ
مِنْ مَوَدَّتِنَا شَيْئًا، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مَثَارًا لِلْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَنَا، فَأَنَا أَعْذُرُهُمْ فِي رَأْيِهِمْ مَعَ اعْتِقَادِي بِإِخْلَاصِهِمْ، وَهُمْ يَعْذُرُونَنِي كَذَلِكَ، وَلَنَفْرِضْ أَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَنَا فِي مَسْأَلَةٍ دِينِيَّةٍ كَأَنْ أَعْتَقِدُ أَنَا أَنَّ فِعْلَ كَذَا حَرَامٌ وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ حِلَّهُ، أَكَانَ يَكُونُ بَيْنَنَا تَفَرُّقٌ لِأَجْلِهِ؟ كَلَّا لَا رَيْبَ عِنْدِي، إِنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْخِلَافَيْنِ وَإِنَّنَا نَبْقَى عَلَى هَذَا الْخِلَافِ أَصْدِقَاءٌ.
ثُمَّ قَالَ مَا مِثَالُهُ مَبْسُوطًا: كَذَلِكَ كَانَ الْخِلَافُ بَيْنَ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ. فَمَالِكٌ قَدْ نَشَأَ فِي الْمَدِينَةِ وَرَأَى مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُهَا مِنْ حُسْنِ الْحَالِ وَسَلَامَةِ الْقُلُوبِ، فَقَالَ: إِنَّ عَمَلَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِي ; لِأَنَّهُمْ عَلَى حُسْنِ حَالِهِمْ وَقُرْبِ عَهْدِهِمْ بِالنَّبِيِّ وَأَصْحَابِهِ لَا يَتَّفِقُونَ عَلَى غَيْرِ مَا مَضَتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ عَمَلًا. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَنَشَأَ فِي الْعِرَاقِ وَأَهْلُهَا - كَمَا اشْتُهِرَ عَنْهُمْ - أَهْلُ شِقَاقٍ وَنِفَاقٍ، فَهُوَ مَعْذُورٌ إِذْ لَمْ يَحْتَجَّ بِعَمَلِهِمْ وَلَا بِعَمَلِ غَيْرِهِمْ قِيَاسًا عَلَيْهِمْ، وَلَوِ اجْتَمَعَا لَعَذَرَ كُلٌّ مِنْهُمَا الْآخَرَ ; لِأَنَّهُ بَذَلَ جُهْدَهُ فِي اسْتِبَانَةِ الْحَقِّ مَعَ الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ - تَعَالَى -، وَإِرَادَةِ الْخَيْرِ وَالطَّاعَةِ، وَقَدْ نُقِلَ عَنِ الْأَئِمَّةِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ كَانَ يَعْذُرُ الْآخَرِينَ فِيمَا خَالَفُوهُ فِيهِ، وَلَكِنْ تَنَكَّبَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ طَوَائِفُ جَاءَتْ بَعْدَهُمْ تُقَلِّدُهُمْ فِيمَا نُقِلَ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ لَا فِي سِيرَتِهِمْ، حَتَّى صَارَ الْهَوَى هُوَ الْحَاكِمَ فِي الدِّينِ، وَصَارَ الْمُسْلِمُونَ شِيَعًا، يَتَعَصَّبُ كُلُّ فَرِيقٍ إِلَى رَأْيٍ مِنْ مَسَائِلِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute