للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَيُخَطِّئُ مَا سِوَاهُ حَتَّى تَعَادَوْا وَاقْتَتَلُوا عَلَى ذَلِكَ، رَاجِعْ تَفْسِيرَ آيَةِ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ [٢: ٢٥٣] فِي الْجُزْءِ الثَّالِثِ مِنَ التَّفْسِيرِ، وَلَوْ كَانُوا أُمَّةً أَوْ كَانَ فِيهِمْ أُمَّةٌ

تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ مُعْتَصِمِينَ بِحَبْلٍ وَاحِدٍ مُتَوَجِّهِينَ إِلَى غَايَةٍ وَاحِدَةٍ لَمَا تَفَرَّقُوا فِي الْمَقَاصِدِ، وَلَوْ لَمْ يَتَفَرَّقُوا لَمَا اخْتَلَفُوا فِي الدِّينِ وَتَعَدَّدَتْ فِيهِمُ الْمَذَاهِبُ فِي أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ حَتَّى قَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَلَا تَكُونُوا مِثْلَهُمْ فَيَحِلَّ بِكُمْ مَا حَلَّ بِهِمْ.

فَهَذِهِ الْآيَةُ مُتَمِّمَةٌ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ وَمَا بَعْدَهَا، فَالِاعْتِصَامُ بِحَبْلِ اللهِ هُوَ الْأَصْلُ وَبِهِ يَكُونُ الِاجْتِمَاعُ وَالِاتِّحَادُ الَّذِي يَجْعَلُ الْأُمَّةَ كَالشَّخْصِ الْوَاحِدِ، وَالدَّعْوَةُ إِلَى الْخَيْرِ هِيَ الَّتِي تَغْذُو هَذِهِ الْوَحْدَةَ وَتَمُدُّهَا وَتُنَمِّيهَا، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ تَقُومُ بِهِ أُمَّةٌ قَوِيَّةٌ هُوَ الَّذِي يَحْفَظُهَا وَيُؤَيِّدُهَا وَيَشُدُّ أَزْرَهَا. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ كَالدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ وِجْهَةُ الْأُمَّةِ الدَّاعِيَةِ الْآمِرَةِ النَّاهِيَةِ وَاحِدَةً ; لِأَنَّ الَّذِينَ سَبَقُوهُمْ مَا أَفْلَحُوا لِعَدَمِ وَحْدَتِهِمْ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا يُمْكِنُ أَنْ تَتَكَوَّنَ فِيكُمْ أُمَّةٌ لِلدَّعْوَةِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ إِلَّا إِذَا اجْتَمَعَتْ عَلَى مَقْصِدٍ وَاحِدٍ، فَالتَّرْتِيبُ فِي الْآيَاتِ طَبِيعِيٌّ، إِذْ مِنَ الْبَدِيهِيِّ أَنَّ الْمُتَّفِقِينَ فِي الْمَقْصِدِ لَا يَخْتَلِفُونَ اخْتِلَافًا ضَارًّا يُنَافِيهِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ الِاخْتِلَافُ بَعْدَ التَّفَرُّقِ فِي الْمَقَاصِدِ وَالتَّبَايُنِ فِي الْأَهْوَاءِ بِذَهَابِ كُلٍّ إِلَى تَأْيِيدِ مَقْصِدِهِ وَإِرْضَاءِ هَوَاهُ فِيهِ، وَالِاخْتِلَافُ فِي الرَّأْيِ لِأَجْلِ تَأْيِيدِ الْمَقْصِدِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ لَا يَضُرُّ بَلْ يَنْفَعُ، وَهُوَ طَبِيعِيٌّ لَا مَنْدُوحَةَ عَنْهُ.

أَقُولُ: وَقَدْ أَوْرَدَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ لِاتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا قَوْلَيْنِ أَقْرَبُهُمَا ثَانِيهِمَا، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا صَحِيحًا فِي نَفْسِهِ فَقَالَ: " فِي النَّظْمِ وَجْهَانِ:

(الْأَوَّلُ) أَنَّهُ - تَعَالَى - ذَكَرَ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّهُ بَيَّنَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ دِينِ الْإِسْلَامِ وَصِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ حَسَدُوا مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاحْتَالُوا فِي إِلْقَاءِ الشُّكُوكِ وَالشُّبُهَاتِ فِي تِلْكَ النُّصُوصِ الظَّاهِرَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ - تَعَالَى - أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْإِيمَانِ بِاللهِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ، ثُمَّ خَتَمَ ذَلِكَ بِأَنَّ حَذَّرَ مِنْ مِثْلِ فِعْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُوَ إِلْقَاءُ الشُّبُهَاتِ فِي هَذِهِ النُّصُوصِ وَاسْتِخْرَاجُ التَّأْوِيلَاتِ الْفَاسِدَةِ الرَّافِعَةِ لِدَلَالَةِ هَذِهِ النُّصُوصِ، فَقَالَ: وَلَا تَكُونُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ سَمَاعِ هَذِهِ الْبَيِّنَاتِ كَالَّذِينِ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ تِلْكَ النُّصُوصُ الظَّاهِرَةُ. فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَكُونُ مِنْ تَتِمَّةِ جُمْلَةِ

الْآيَاتِ.

وَ (الثَّانِي) وَهُوَ أَنَّهُ - تَعَالَى - لَمَّا أَمَرَ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَتِمُّ إِلَّا إِذَا كَانَ الْآمِرُ بِالْمَعْرُوفِ قَادِرًا عَلَى تَنْفِيذِ هَذَا التَّكْلِيفِ عَلَى الظَّلَمَةِ وَالْمُتَعَالِينَ، وَلَا تَحْصُلُ هَذِهِ الْقُدْرَةُ إِلَّا إِذَا حَصَلَتِ الْأُلْفَةُ وَالْمَحَبَّةُ بَيْنَ أَهْلِ الْحَقِّ وَالدِّينِ، لَا جَرَمَ حَذَّرَهُمْ - تَعَالَى - مِنَ الْفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ ; لِكَيْلَا يَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا لِعَجْزِهِمْ عَنِ الْقِيَامِ بِهَذَا التَّكْلِيفِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>