عَنْ أَكْبَرِ شُيُوخِهِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا [٩: ٣١] فَإِنَّهُ بَعْدَ تَفْسِيرِ اتِّخَاذِهِمْ أَرْبَابًا بِطَاعَتِهِمْ فِيمَا يُحَلِّلُونَ وَيُحَرِّمُونَ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ قَالَ مَا نَصَّهُ:
قَالَ شَيْخُنَا وَمَوْلَانَا خَاتِمَةُ الْمُحَقِّقِينَ وَالْمُجْتَهِدِينَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: قَدْ شَاهَدْتُ جَمَاعَةً مِنْ مُقَلِّدَةِ الْفُقَهَاءِ قَرَأْتُ عَلَيْهِمْ آيَاتٍ كَثِيرَةً مِنْ كِتَابِ اللهِ - تَعَالَى - فِي بَعْضِ مَسَائِلَ وَكَانَتْ مَذَاهِبُهُمْ بِخِلَافِ تِلْكَ الْآيَاتِ فَلَمْ يَقْبَلُوا تِلْكَ الْآيَاتِ وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهَا وَبَقُوا يَنْظُرُونَ إِلَيَّ كَالْمُتَعَجِّبِ! يَعْنِي كَيْفَ يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِظَوَاهِرِ هَذِهِ الْآيَاتِ مَعَ أَنَّ الرِّوَايَةَ عَنْ سَلَفِنَا وَرَدَتْ عَلَى خِلَافِهَا! وَلَوْ تَأَمَّلْتَ حَقَّ التَّأَمُّلِ وَجَدْتَ هَذَا الدَّاءَ سَارِيًا فِي عُرُوقِ الْأَكْثَرِينَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا " اهـ.
أَقُولُ: إِنَّ الرَّازِيَّ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - كَانَ يُقَرِّرُ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ عِنْدَمَا يُفَسِّرُ آيَاتِهَا وَيَنْسَاهَا فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى، فَيَتَعَصَّبُ لِلْأَشْعَرِيَّةِ فِي أُصُولِ الْعَقَائِدِ وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِي فُرُوعِ الْفِقْهِ، لَا سِيَّمَا فِيمَا يُخَالِفُونَ فِيهِ الْحَنَفِيَّةَ. وَهَذَا هُوَ أَصُولُ الدَّاءِ الَّذِي يَشْكُو مِنْ بَعْضِ أَعْرَاضِهِ عِنْدَ الْكَلَامِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ مَعَ الْغَفْلَةِ عَنْ سَبَبِهَا. أَمَّا الْإِمَامُ الْغَزَّالِيُّ فَقَدْ تَجَرَّدَ عَنِ التَّعَصُّبِ لِلْمَذَاهِبِ كُلِّهَا فِي نِهَايَتِهِ، وَوَصَفَ الدَّوَاءَ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ كَالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (رَاجِعْ ذَلِكَ فِي ص ١١ مِنَ الْجُزْءِ الثَّالِثِ طَبْعَةِ الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ) وَلَكِنَّهُ لَمْ يُوَفَّقْ إِلَى تَأْلِيفِ أُمَّةٍ تَدْعُو إِلَيْهِ وَتَقُومُ بِهِ.
وَإِذَا كَانَ الرَّازِيُّ وَشَيْخُهُ يَقُولَانِ فِي عُلَمَاءِ الْقَرْنِ السَّابِعِ، وَالْغَزَّالِيُّ يَقُولُ فِي عُلَمَاءِ الْقَرْنِ الْخَامِسِ مَا قَالُوا فَمَاذَا نَقُولُ فِي أَكْثَرِ عُلَمَاءِ زَمَانِنَا وَهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِمَا نَعْرِفُهُ مِنْ
كَوْنِهِمْ لَا يَشُقُّونَ لِأُولَئِكَ غُبَارًا؟ أَلَسْنَا الْآنَ أَحْوَجَ إِلَى الْإِصْلَاحِ مِنَّا إِلَيْهِ فِي تِلْكَ الْعُصُورِ الَّتِي اعْتَرَفَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ بِأَنَّ الظُّلُمَاتِ فِيهَا غَشِيَتِ النُّورَ، حَتَّى ضَلَّ بِالِاخْتِلَافِ الْجُمْهُورُ؟ بَلَى، وَهُوَ مَا نُعَانِي فِيهِ مَا نُعَانِي وَإِلَى اللهِ تَرْجِعُ الْأُمُورُ.
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ يُفِيدُ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُؤَاخَذُ عَلَى تَرْكِ الْحَقِّ أَوِ اتِّبَاعِ الْبَاطِلِ إِلَّا إِذَا بُيِّنَ لَهُ ذَلِكَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ، أَوْ صَارَ بِحَيْثُ تَبَيَّنَ لَهُ لَوْ نَظَرَ فِيهِ، وَالْجَهْلُ لَيْسَ بِعُذْرٍ بَعْدَ الْبَيَانِ، كَمَا هُوَ الْمُقَرَّرُ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ وَالْحُكَّامُ فِي كُلِّ مَكَانٍ.
قَالَ - تَعَالَى - فِي الْمُتَفَرِّقِينَ الْمُخْتَلِفِينَ بَعْدَ مَجِيءِ الْبَيِّنَاتِ: وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فَهَذَا الْوَعِيدُ يُقَابِلُ الْوَعْدَ الْكَرِيمَ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي الدَّاعِينَ إِلَى الْخَيْرِ الْآمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ النَّاهِينَ عَنِ الْمُنْكَرِ: وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فَالْفَلَاحُ فِي ذَلِكَ الْوَعْدِ يَشْمَلُ الْفَوْزَ بِخَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْعَذَابُ فِي هَذَا الْوَعِيدِ يَشْمَلُ خُسْرَانَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مَعْنَاهُ: أَمَّا عَذَابُ الدُّنْيَا فَهُوَ أَنَّ الْمُتَفَرِّقِينَ الْمُخْتَلِفِينَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ، وَحَكَّمُوا فِي دِينِهِمْ آرَاءَهُمْ يَكُونُ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدًا، فَيَشْقَى بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ ثُمَّ يُبْتَلَوْنَ بِالْأُمَمِ الطَّامِعَةِ فِي الضُّعَفَاءِ فَتُذِيقُهُمُ الْخِزْيَ وَالنَّكَالَ، وَتَسْلُبُهُمْ عَزَّةَ الِاسْتِقْلَالِ، وَأَمَّا عَذَابُ الْآخِرَةِ فَقَدْ بَيَّنَ اللهُ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ أَشَدُّ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَأَبْقَى.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute