للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الرَّجُلُ حَمْزَةَ عَمَّهُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَتَأَوَّلَ الْبَقَرَ بِنَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ يُقْتَلُونَ، وَتَأَوَّلَ الدِّرْعَ بِالْمَدِينَةِ.

وَلَكِنَّهُ عَلَى هَذَا كُلِّهِ عَمِلَ بِرَأْيِ الْجُمْهُورِ مِنْ أَصْحَابِهِ إِقَامَةً لِقَاعِدَةِ الشُّورَى الَّتِي أَمَرَهُ اللهُ بِهَا وَهُوَ لَمْ يُخَالِفْ بِذَلِكَ قَاعِدَةَ ارْتِكَابِ أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ بَلْ جَرَى عَلَيْهَا ; لِأَنَّ مُخَالَفَةَ رَأْيِ الْجُمْهُورِ وَلَوْ إِلَى خَيْرِ الْأَمْرَيْنِ هَضْمٌ لِحَقِّ الْجَمَاعَةِ وَإِخْلَالٌ بِأَمْرِ الشُّورَى الَّتِي هِيَ أَسَاسُ الْخَيْرِ كُلِّهِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَكُونُ الْمُكْثُ فِي الْمَدِينَةِ خَيْرًا مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى الْعَدُوِّ فِي أُحُدٍ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُخِلًّا بِقَاعِدَةِ الشُّورَى - كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ - فَكَيْفَ تَرَكَ الْمُسْلِمُونَ هَذَا الْهَدْيَ النَّبَوِيَّ الْأَعْلَى وَرَضُوا بِأَنْ يَكُونَ مُلُوكُهُمْ وَأُمَرَاؤُهُمْ مُسْتَبِدِّينَ بِالْأَحْكَامِ وَالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ يُدِيرُونَ دُوَلًا بِهَا بِأَهْوَائِهِمُ الَّتِي لَا تَتَّفِقُ مَعَ الدِّينِ وَلَا مَعَ الْعَقْلِ؟

وَسَأَلَ قَوْمٌ مِنَ الْأَنْصَارِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَسْتَعِينُوا بِحُلَفَائِهِمْ مِنَ الْيَهُودِ فَأَبَى، وَكَانَ فِي الْحَقِيقَةِ ضِلْعُ الْيَهُودِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، وَلَمْ يَكُونُوا فِي عُهُودِهِمْ بِمُوفِينَ.

وَمَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَصْحَابِهِ حَتَّى مَرَّ بِهِمْ فِي حَرَّةِ بَنِي حَارِثَةَ وَقَالَ لَهُمْ: " مَنْ رَجُلٌ يَخْرُجُ بِنَا عَلَى الْقَوْمِ مِنْ كَثَبٍ - قُرْبٍ - لَا يَمُرُّ بِنَا عَلَيْهِمْ "؟ فَقَالَ أَبُو خَيْثَمَةَ أَخُو بَنِي حَارِثَةَ بْنِ الْحَارِثِ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ، فَنَفَذَ بِهِ فِي حَرَّةِ قَوْمِهِ بَنِي حَارِثَةَ وَبَيْنَ أَمْوَالِهِمْ حَتَّى سَلَكَ فِي مَالٍ لِمِرْبَعِ بْنِ قَيْظِيٍّ - وَكَانَ رَجُلًا مُنَافِقًا ضَرِيرَ الْبَصَرِ - فَلَمَّا سَمِعَ حِسَّ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ قَامَ يَحْثُو فِي وُجُوهِهِمُ التُّرَابَ وَيَقُولُ: إِنْ كُنْتَ رَسُولَ اللهِ فَلَا أُحِلُّ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ حَائِطِي. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَقَدْ ذُكِرَ لِي أَنَّهُ أَخَذَ حَفْنَةً مِنْ تُرَابٍ فِي يَدِهِ ثُمَّ قَالَ: وَاللهِ لَوْ أَنِّي أَعْلَمُ لَا أُصِيبُ بِهَا غَيْرَكَ يَا مُحَمَّدُ لَضَرَبْتُ بِهَا وَجْهَكَ، فَابْتَدَرَهُ الْقَوْمُ لِيَقْتُلُوهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا تَقْتُلُوهُ فَهَذَا الْأَعْمَى أَعْمَى الْقَلْبِ أَعْمَى الْبَصَرِ وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ عِلْمِ النَّبِيِّ بِفَنِّ الْحَرْبِ: الْإِرْشَادُ إِلَى اخْتِيَارِ أَقْرَبِ الطُّرُقِ إِلَى الْعَدُوِّ وَأَخْفَاهَا عَنْهُ، وَذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ بِخُرْتِ الْأَرْضِ الَّذِي يُعْرَفُ الْيَوْمَ بِعِلْمِ الْجُغْرَافِيَةِ. وَإِبَاحَةُ الْمُرُورِ فِي مِلْكِ النَّاسِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ لِتَقْدِيمِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ الْخَاصَّةِ. وَفِيهَا مِنْ رَحْمَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

أَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ بِقَتْلِ ذَلِكَ الْمُنَافِقِ الْمُجَاهِرِ بِعَدَائِهِ بَلْ رَحِمَهُ وَعَذَرَهُ، وَلَمْ تَكُنِ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ تَتَوَقَّفُ عَلَى قَتْلِهِ.

وَلَمْ تَكُنِ الْعَرَبُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ تُرَاعِي هَذِهِ الدِّقَّةَ فِي حِفْظِ الدِّمَاءِ بَلْ قَلَّمَا تُرَاعِيهِ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ.

وَمَضَى رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى نَزَلَ الشِّعْبَ مِنْ جَبَلِ أُحُدٍ فِي عُدْوَةِ الْوَادِي إِلَى الْجَبَلِ، فَجَعَلَ ظَهْرَهُ وَعَسْكَرَهُ إِلَى أُحُدٍ وَقَالَ: " لَا يُقَاتِلَنَّ أَحَدٌ حَتَّى نَأْمُرَ بِالْقِتَالِ " وَفِي ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ الْحَرْبِ أَنَّ الرَّئِيسَ هُوَ الَّذِي يَفْتَحُهَا، وَمَا كَانَتِ الْعَرَبُ تُرَاعِي ذَلِكَ دَائِمًا لَا سِيَّمَا إِذَا حَدَثَ مَا يُثِيرُ حَمِيَّتَهُمْ، وَقَدِ امْتَثَلُوا الْأَمْرَ عَلَى اسْتِشْرَافٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ

<<  <  ج: ص:  >  >>