بِأَنَّهُمْ هُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَلَكِنْ وَقَعَ فِي نُفُوسِ الْكَثِيرِينَ - إِنْ لَمْ نَقُلْ فِي نُفُوسِ الْجَمِيعِ - أَنَّ نَصْرَهُمْ سَيَكُونُ بِالْآيَاتِ وَالْعِنَايَةِ الْخَاصَّةِ مِنْ غَيْرِ الْتِزَامٍ لِلسُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ فِي الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ، وَأَنَّ وُجُودَ الرَّسُولِ فِيهِمْ وَدُعَاءَهُ عَلَى أَعْدَائِهِمْ هُمَا أَفْعَلُ فِي التَّنْكِيلِ بِالْكُفَّارِ مِنِ الْتِزَامِ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي أَهَمُّهَا طَاعَةُ الْقَائِدِ وَالْتِزَامُ النِّظَامِ الْعَسْكَرِيِّ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ الْفِطْرَةِ لَا الْخَوَارِقِ.
كَانَتْ عَاقِبَةُ ذَلِكَ أَنْ قَصَّرُوا فِي هَذِهِ الْأَسْبَابِ يَوْمَ أُحُدٍ حَتَّى ظَهَرَ عَلَيْهِمُ الْعَدُوُّ وَجُرِحَ الرَّسُولُ نَفْسُهُ - وَإِنْ لَمْ يُقَصِّرْ هُوَ - وَلَمْ يَنْهَزِمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كَمَا هِيَ السُّنَّةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ الَّتِي
بَيَّنَهَا - تَعَالَى - قَبْلَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ بِقَوْلِهِ: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [٨: ٢٥]- وَإِنْ تَبَرَّمَ الرَّسُولُ مِنَ الْكَافِرِينَ وَدَعَا عَلَى رُؤَسَائِهِمْ - فَكَانَ ذَلِكَ فُرْصَةً لِإِعْلَامِ الْمُؤْمِنِينَ بِحَقِيقَةٍ مِنْ حَقَائِقِ دِينِ الْفِطْرَةِ، وَهِيَ أَنَّ الرَّسُولَ بَشَرٌ لَيْسَ لَهُ مِنْ أَمْرِ الْعِبَادِ وَلَا مِنْ أَمْرِ الْكَوْنِ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا هُوَ مُعَلِّمٌ وَأُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِيمَا يَعْلَمُهُ، وَالْأَمْرُ كُلُّهُ لَهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْآيَةِ (١٥٤) يُدَبِّرُهُ بِمُقْتَضَى سُنَنِهِ كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ فِي الْآيَةِ (١٣٧) وَكِلَا الْآيَتَيْنِ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ.
هَذَا الْبَيَانُ الْإِلَهِيُّ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ يَتَمَكَّنُ فِي النُّفُوسِ مَا لَا يَتَمَكَّنُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَقْرُونًا بِوَاقِعَةٍ مَشْهُورَةٍ لَا مَجَالَ مَعَهَا لِتَأْوِيلِهِ وَلَا لِتَخْصِيصِهِ أَوْ تَقْيِيدِهِ، فَهُوَ مِنْ أَقْوَى دَعَائِمِ التَّوْحِيدِ فِي الْقُرْآنِ، وَدَلَائِلِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ لَوْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُؤَسِّسَ مُلْكٍ، وَزَعِيمَ سِيَاسَةٍ يُدِيرُهَا بِالرَّأْيِ لَمَا قَالَ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ، فَأَيُّ نَصِيبٍ مِنْ هَذَا الدِّينِ لِلَّذِينَ يَجْعَلُونَ أَمْرَ الْعِبَادِ وَتَدْبِيرَ شُئُونِ الْكَوْنِ لِطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ أَوِ الْأَحْيَاءِ الَّذِينَ يُلَقَّبُونَ بِالْمَشَايِخِ وَالْأَوْلِيَاءِ فَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَنْصُرُونَ وَيَخْذُلُونَ، وَيُسْعِدُونَ وَيُشْقُونَ، وَيُمِيتُونَ وَيُحْيُونَ، وَيُغْنُونَ وَيُفْقِرُونَ، وَيُمْرِضُونَ وَيَشْفُونَ، وَيَفْعَلُونَ كُلَّ مَا يَشَاءُونَ؟ هَلْ يُعَدُّ هَؤُلَاءِ مَنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَأَتْبَاعِ الْقُرْآنِ الَّذِي يُخَاطِبُ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ - حِينَ لَعَنَ رُؤَسَاءَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ حَارَبُوهُ حَتَّى خَضَّبُوا بِالدَّمِ مُحَيَّاهُ وَكَسَرُوا إِحْدَى ثَنَايَاهُ - بِقَوْلِهِ: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ وَقَوْلِهِ: قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ؟ هَذَا تَعْلِيمُ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ وَهَذَا هَدْيُهُ الْقَوِيمُ، فَهَلْ كَانَ أَهْلُ بُخَارَى مُهْتَدِينَ بِهِ عِنْدَمَا كَانُوا يَقُولُونَ وَقَدْ عَلِمُوا بِعَزْمِ رُوسْيَا عَلَى الِاسْتِيلَاءِ عَلَى بِلَادِهِمْ: إِنَّ " شَاهْ نَقْشَبَنْدَ " هُوَ حَامِي هَذِهِ الْبِلَادِ فَلَنْ يَسْتَطِيعَهَا أَحَدٌ؟ هَلْ كَانَ أَهْلُ فَاسَ مُهْتَدِينَ بِهِ عِنْدَمَا لَجَئُوا إِلَى قَبْرِ وَلِيِّهِمْ " إِدْرِيسَ "
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute