لَا يَقْصِدُ لَازِمَ الْمَوْتِ وَالشَّهَادَةِ مِنْ نَقْصِ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ ضَعْفِهِمْ ; عَلَى أَنَّ هَذَا اللَّازِمَ إِنَّمَا يَتْبَعُ اسْتِشْهَادَ الْكَثِيرِ أَوِ الْأَكْثَرِ مِنْهُمْ، وَمَنْ يَتَمَنَّى الشَّهَادَةَ فَإِنَّمَا يَتَمَنَّاهَا لِنَفْسِهِ دُونَ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ مِنْ قَوْمِهِ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ تَمَنِّي الشَّهَادَةِ الَّذِي وَقَعَ لَيْسَ تَمَنِّيًا مُطْلَقًا وَإِنَّمَا هُوَ تَمَنِّي مَنْ يُقَاتِلُ لِنُصْرَةِ الْحَقِّ أَنْ تَذْهَبَ نَفْسُهُ دُونَهُ، فَإِذَا هُوَ وَصَلَ إِلَى مَا يَبْغِي مِنْ نُصْرَةِ الْحَقِّ وَإِعْزَازِهِ بِانْهِزَامِ أَهْلِ الْبَاطِلِ وَخِذْلَانِهِمْ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَإِلَّا فَضَّلَ الْمَوْتَ فِي سَبِيلِ إِعْزَازِ الْحَقِّ وَرَآهُ خَيْرًا مِنَ الْبَقَاءِ مَعَ إِذْلَالِهِ وَغَلَبَةِ الْبَاطِلِ عَلَيْهِ، وَقَالَ: إِنَّ الْخِطَابَ لِمَنْ يَسْبِقُ لَهُمْ تَمَنِّي الْمَوْتِ بَعْدَ أَنْ فَاتَهُمْ حُضُورُ وَقْعَةِ بَدْرٍ أَوِ الشَّهَادَةُ فِيهَا لِبَعْضِ مَنْ
حَضَرَهَا، ثُمَّ جَاءَتْ وَقْعَةُ أُحُدٍ فَكَانَ مِنْهُمْ مَنِ انْكَسَرَتْ نَفْسُهُ فِي أَثْنَاءِ الْوَقْعَةِ وَوَهَنَ عَزْمُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ وَهَنَ وَضَعُفَ بَعْدَهَا عِنْدَمَا نَدَبَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى اتِّبَاعِ الْمُشْرِكِينَ مَعَهُ فِي حَمْرَاءِ الْأَسَدِ. كَأَنَّهُ يَقُولُ: يَا سُبْحَانَ اللهِ لَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ قَبْلَ أَنْ تُلَاقُوا الْقَوْمَ فِي الْحَرْبِ، فَهَا أَنْتُمْ أُولَاءِ قَدْ رَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْنَهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيْهِ لَا تَغْفُلُونَ عَنْهُ فَمَا بَالُكُمْ دَهِشْتُمْ عِنْدَمَا وَقَعَ الْمَوْتُ فِيكُمْ؟ وَمَا بَالُكُمْ تَحْزَنُونَ وَتَضْعُفُونَ عِنْدَ لِقَاءِ مَا كُنْتُمْ تُحِبُّونَ وَتَتَمَنَّوْنَ؟ وَمَنْ تَمَنَّى الشَّيْءَ وَسَعَى إِلَيْهِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْزِنَهُ لِقَاؤُهُ وَيَسُوءَهُ فَقَوْلُهُ: وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ لِلتَّأْكِيدِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَرَى الشَّيْءَ أَحْيَانًا وَلَكِنَّهُ لِانْشِغَالِهِ عَنْهُ رُبَّمَا لَا يَتَبَيَّنُهُ، فَأَرَادَ أَنْ يَقُولَ: إِنَّكُمْ قَدْ رَأَيْتُمُوهُ رُؤْيَةً كَانَ لَهَا الْأَثَرُ الثَّابِتُ فِي نُفُوسِكُمْ لَا رُؤْيَةً مِنْ قَبِيلِ لَمْحِ الشَّيْءِ مَعَ الْغَفْلَةِ عَنْهُ وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِهِ، قَالَ: وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْجُمْلَةَ مُسْتَأْنَفَةٌ، أَيْ أَبْصَرْتُمُوهُ وَأَنْتُمُ الْآنُ تَنْظُرُونَ وَتَتَأَمَّلُونَ فِيمَا رَأَيْتُمُوهُ وَتُفَكِّرُونَ فِي عَلَاقَتِهِ بِشُئُونِكُمْ، وَالَّذِي يَظْهَرُ هُوَ صِحَّةُ التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ يَعْنِي أَنَّهَا مُؤَكِّدَةٌ.
أَقُولُ: وَقَدْ جَرَى صَاحِبُ الْكَشَّافِ وَالْبَيْضَاوِيُّ وَأَبُو السُّعُودِ عَلَى أَنَّهَا حَالِيَّةٌ، وَأَنَّ مَعْنَاهُ: رَأَيْتُمُ الْمَوْتَ نَاظِرِينَ إِلَى وُقُوعِهِ بِكُمْ، وَاغْتِيَالِهِ لِإِخْوَانِكُمْ مُتَوَقِّعِينَ أَنْ يَحِلَّ بِكُمْ مَا حَلَّ بِهِمْ، قَالَ جَمَاعَةٌ وَهُوَ تَوْبِيخٌ لَهُمْ عَلَى تَمَنِّيهِمُ الْمَوْتَ وَإِلْحَاحِهِمْ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْخُرُوجِ إِلَى الْحَرْبِ، وَنَقُولُ: إِنَّهُ تَذْكِيرٌ لِمَنِ انْهَزَمَ وَعَصَى مِنْهُمْ بِأَنَّ مَا سَبَقَ مِنْ تَمَنِّيهِمُ الْمَوْتَ لَمْ يَكُنْ عَنْ رُسُوخٍ وَيَقِينٍ وَتَفْضِيلٍ لِلشَّهَادَةِ وَلِقَاءِ اللهِ عَلَى الْحَيَاةِ، وَإِنَّمَا كَانَ فِيهِ شَائِبَةٌ مِنَ الْغُرُورِ وَالزَّهْوِ، وَإِرْشَادٌ تَوْبِيخِيٌّ لَهُمْ وَلِأَمْثَالِهِمْ إِلَى أَنْ يُحَاسِبُوا أَنْفُسَهُمْ وَيُطَالِبُوهَا بِالْكَمَالِ الَّذِي تَأْتِي فِيهِ الْأَعْمَالُ مُصَدِّقَةً لِخَوَاطِرِ النَّفْسِ وَتَمَنِّيَاتِهَا كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ.
بَعْدَ هَذَا بَيَّنَ اللهُ - تَعَالَى - حِكْمَةً أُخْرَى مِنْ أَعْظَمِ الْحِكَمِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِغَزْوَةِ أُحُدٍ وَهِيَ إِشَاعَةُ قَتْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا كَانَ مِنْ تَأْثِيرِهَا فِي الْمُسْلِمِينَ وَمَا كَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَفْصِيلَ ذَلِكَ فِي الْقِصَّةِ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا فَقَالَ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute