وُجُودِ الْمُعَلِّمِ وَبَعْدَهُ، فَكَأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - يَقُولُ: عَلَيْكُمْ أَنْ تَسْتَضِيئُوا بِالنُّورِ وَتَتَقَلَّدُوا سَيْفَ الْبُرْهَانِ اللَّذَيْنِ جَاءَكُمْ بِهِمَا مُحَمَّدٌ، وَأَمَّا مَا يُصِيبُ جِسْمَهُ مِنْ جُرْحٍ أَوْ أَلَمٍ، وَمَا يَعْرِضُ لَهُ مِنْ حَيَاةٍ أَوْ مَوْتٍ فَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِي صِحَّةِ دَعْوَتِهِ، وَلَا فِي إِضْعَافِ النُّورِ الَّذِي جَاءَ بِهِ، فَلَا مَعْنَى إذًا لِتَعْلِيقِ إِيمَانِكُمْ بِحَيَاتِهِ أَوْ سَلَامَةِ بَدَنِهِ مِمَّا يَعْرِضُ لَهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، خَاضِعٌ لِسُنَنِ اللهِ كَخُضُوعِكُمْ.
أَقُولُ: قَدْ غَفَلَ عَنْ هَذَا مَنْ أَهْمَلَ هِدَايَةَ الْقُرْآنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (جِنْسِيَّةً لَا إِذْعَانًا وَمَعْرِفَةً) فَتَرَاهُمْ إِذَا سَاءَ اعْتِقَادُهُمْ فِي رَجُلٍ - كَأَنْ خَالَفَ تَقَالِيدَهُمْ أَوْ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ أَهْوَاءَهُمْ - يَتَرَبَّصُونَ بِهِ الدَّوَائِرَ فَإِذَا أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ زَعَمُوا أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - قَدِ انْتَقَمَ مِنْهُ حُبًّا لَهُمْ وَبُغْضًا فِيهِ! فَإِنْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ مُتَّهَمًا بِالْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ يَعْتَقِدُونَ صَلَاحَهُمْ وَوِلَايَتَهُمْ، قَالُوا إِنَّهُمْ قَدْ تَصَرَّفُوا فِيهِ! ! وَيَغْفُلُونَ عَمَّا أَصَابَ النَّبِيَّ فِي أُحُدٍ وَمَا أَصَابَ كَثِيرًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ، بَلْ يَعْمُونَ عَمَّا يُصِيبُ مُعْتَقَدِيهِمْ وَأَوْلِيَاءَهُمْ فِي عَهْدِهِمْ. لَمَّا حُبِسَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي عَاقِبَةِ الثَّوْرَةِ الْعُرَابِيَّةِ قَالَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ الْمَغْرُورِينَ: إِنَّهُ حُبِسَ كَرَامَةً لِلشَّيْخِ عِلِيشٍ لِأَنَّهُ - أَيِ الشَّيْخِ عِلِيشٍ - كَانَ يَكْرَهُهُ، فَبَلَغَهُ ذَلِكَ وَكَانَ الشَّيْخُ عِلِيشٍ مَحْبُوسًا أَيْضًا فَقَالَ: لِمَاذَا أَكُونُ حُبِسْتُ كَرَامَةً لَهُ وَلَمْ يَكُنْ هُوَ الَّذِي حُبِسَ كَرَامَةً لِي ; لِأَنَّهُ أَسَاءَ بِي الظَّنَّ وَقَالَ السُّوءَ لِتَصْدِيقِهِ فِيَّ الْوُشَاةَ النَّمَّامِينَ وَأَنَا لَمْ أَقُلْ فِيهِ شَيْئًا؟ السَّبَبُ فِي
حَبْسِ كُلٍّ مِنَّا وَاحِدٌ، فَلِمَاذَا كَانَ كَرَامَةً لِوَاحِدٍ وَانْتِقَامًا مِنَ الْآخَرِ؟
وَلَا يَخْفَى عَلَى الْمُؤْمِنِ الْعَارِفِ أَنَّ هَذَا الِاعْتِقَادَ يُعَارِضُ التَّوْحِيدَ الْخَالِصَ ; وَلِذَلِكَ كَانَ مِنَ الْمَقَاصِدِ فِي الْآيَةِ وَالْحُكْمِ فِي سَبَبِهَا تَقْرِيرُ التَّوْحِيدِ بِبَيَانِ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ كَسَائِرِ الْبَشَرِ فِي الْخُضُوعِ لِسُنَنِ اللهِ وَنِظَامِ خَلْقِهِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي بَيَانِ مَزَايَا الْإِسْلَامِ مِنْ رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ مَا نَصُّهُ:
" ثُمَّ أَمَاطَ (أَيِ الْإِسْلَامُ) اللِّثَامَ عَنْ حَالِ الْإِنْسَانِ فِي النِّعَمِ الَّتِي يَتَمَتَّعُ بِهَا الْأَشْخَاصُ أَوِ الْأُمَّةُ، وَالْمَصَائِبُ الَّتِي يُرْزَءُونَ بِهِ، فَفَصَلَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَصْلًا لَا مَجَالَ مَعَهُ لِلْخَلْطِ بَيْنَهُمَا، فَأَمَّا النِّعَمُ الَّتِي يُمَتِّعُ اللهُ بِهَا بَعْضَ الْأَشْخَاصِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَالرَّزَايَا الَّتِي يُرْزَأُ بِهَا فِي نَفْسِهِ فَكَثِيرٌ مِنْهَا كَالثَّرْوَةِ وَالْجَاهِ وَالْقُوَّةِ وَالْبَنِينَ أَوِ الْفَقْرِ وَالضَّعَةِ وَالضَّعْفِ وَالْفَقْدِ رُبَّمَا لَا يَكُونُ كَاسِبُهَا أَوْ جَالِبُهَا مَا عَلَيْهِ الشَّخْصُ فِي سِيرَتِهِ مِنِ اسْتِقَامَةٍ وَعِوَجٍ أَوْ طَاعَةٍ وَعِصْيَانٍ، كَثِيرًا مَا أَمْهَلَ اللهُ بَعْضَ الطُّغَاةِ الْبُغَاةِ أَوِ الْفَجَرَةِ الْفَسَقَةِ وَتَرَكَ لَهُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا إِنْظَارًا لَهُمْ حَتَّى يَتَلَقَّاهُمْ مَا أَعَدَّ مِنَ الْعَذَابِ الْمُقِيمِ فِي الْحَيَاةِ الْأُخْرَى وَكَثِيرًا مَا امْتَحَنَ اللهُ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِهِ، وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ فِي الِاسْتِسْلَامِ لِحُكْمِهِ، وَهُمُ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ عَبَّرُوا عَنْ إِخْلَاصِهِمْ فِي التَّسْلِيمِ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [٢: ١٥٦] فَلَا غَضَبُ زَيْدٍ وَلَا رِضَا عَمْرٍو وَلَا إِخْلَاصُ سَرِيرَةٍ وَلَا فَسَادُ عَمَلٍ مِمَّا يَكُونُ لَهُ فِي هَذِهِ الرَّزَايَا، وَلَا فِي تِلْكَ النِّعَمِ الْخَاصَّةِ، اللهُمَّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute