للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(الثَّانِيَةُ) : هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) (٢: ٤) إِلَخْ، وَهُمْ كُلُّ مَنْ آمَنَ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى التَّحْقِيقِ.

وَبَيَّنَّا أَنَّهُ يُوجَدُ بِإِزَاءِ هَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ طَائِفَتَانِ أُخْرَيَانِ لَا تُرْجَى هِدَايَتُهُمَا بِالْقُرْآنِ:

الْأُولَى مِنْهُمَا: هِيَ الْمَشْرُوحُ حَالُهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) (٢: ٦) إِلَخْ. وَهِيَ كَمَا قَدَّمْنَا تَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: جَاحِدِينَ لَا يَسْمَعُونَ، وَمُعَانِدِينَ يَعْرِفُونَ الْحَقَّ وَلَا يُذْعِنُونَ.

وَهَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا الْآنَ هِيَ الْمُبَيِّنَةُ لِحَالِ الْفِرْقَةِ الرَّابِعَةِ، وَهِيَ فِرْقَةٌ مِنَ النَّاسِ تُوجَدُ فِي كُلِّ آنٍ وَفِي كُلِّ عَصْرٍ، وَلَيْسَتِ الْآيَاتُ كَمَا قِيلَ فِي أُولَئِكَ النَّفَرِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِي بَيَانِ حَالِهِمْ: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) (٢: ٨) وَلَمْ يَقُلْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ يَقُولُونَ مَعَ ذَلِكَ: " وَآمَنَّا بِكَ يَا مُحَمَّدُ " وَمَا كَانَ الْقُرْآنُ لِيَعْتَنِيَ بِأُولَئِكَ النَّفَرِ - الَّذِينَ

لَمْ يَلْبَثُوا أَنِ انْقَرَضُوا - كُلَّ هَذِهِ الْعِنَايَةِ، وَيُطِيلَ فِي بَيَانِ حَالِهِمْ أَكْثَرَ مِمَّا أَطَالَ فِي الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ هُمْ سَائِرُ النَّاسِ.

نَعَمْ: إِنَّ الْآيَاتِ عَلَى عُمُومِهَا تَتَنَاوَلُ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي عَصْرِ التَّأْوِيلِ تَنَاوُلًا أَوَّلِيًّا، وَتَصِفُ حَالَهُمْ وَصْفًا مُطَابِقًا، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ عِبْرَةٌ عَامَّةٌ شَامِلَةٌ لِمَنْ مَضَى وَلِمَنْ يَجِيءُ مِنْ هَذَا الصِّنْفِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ كَانَ وَيَكُونُ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ وَالْمَجُوسِ وَمِنْ كُلِّ طَائِفَةٍ تَدَّعِي أَنَّهَا عَلَى دِينٍ، وَلَمْ يَحْكِ عَنْهُمْ دَعْوَى الْإِيمَانِ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ - مَعَ أَنَّ مِنْهُمُ الَّذِينَ يَدَّعُونَ ذَلِكَ - لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ، فَهُوَ إِنَّمَا يُعْرَفُ مِنْ قِبَلِ الْأَنْبِيَاءِ، وَهَذَا مِنْ ضُرُوبِ إِيجَازِ الْقُرْآنِ الَّتِي بَلَغَتْ حَدَّ الْإِعْجَازِ.

قَدْ يُقَالُ: كَانَ فِي أُولَئِكَ الْقَوْمِ مَنْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ كَمُنَافِقِي الْيَهُودِ، فَلِمَ كَذَّبَهُمْ وَنَفَى عَنْهُمُ الْإِيمَانَ نَفْيًا مُطْلَقًا مُؤَكَّدًا بِدُخُولِ الْبَاءِ فِي خَبَرِ " مَا " فَقَالَ: (وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) أَيْ بِدَاخِلِينَ فِي جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ أَلْبَتَّةَ، وَهُوَ أَبْلَغُ مَنْ نَفْيِ فِعْلِ الْإِيمَانِ الْمُطَابِقِ لِلَفْظِهِمْ وَالْمُقَيَّدِ بِالْإِيمَانِ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ اعْتِقَادَهُمُ التَّقْلِيدِيَّ الضَّعِيفَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَثَرٌ فِي أَخْلَاقِهِمْ وَلَا فِي أَعْمَالِهِمْ، فَلَوْ حُصِّلَ مَا فِي صُدُورِهُمْ وَمُحِّصَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ، وَعُرِفَتْ مَنَاشِئُ الْأَعْمَالِ مِنْ نُفُوسِهِمْ، لَوُجِدَ أَنَّ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ كَصَلَاةٍ وَصَدَقَةٍ فَإِنَّمَا مَبْعَثُهُ رِئَاءُ النَّاسِ وَحُبُّ السُّمْعَةِ، وَهُمْ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ مُنْغَمِسُونَ فِي الشُّرُورِ، كَالْإِفْسَادِ وَالْكَذِبِ وَالْغِشِّ وَالْخِيَانَةِ وَالطَّمَعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الرَّذَائِلِ الَّتِي حَكَاهَا عَنْهُمُ الْكِتَابُ وَنَقَلَهَا رُوَاةُ السُّنَّةِ، وَهَذِهِ الْأَعْمَالُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ كَمَا يُحِبُّ وَيَرْضَى أَنْ يُؤْمَنَ بِهِ، وَهُوَ أَنْ يَشْعُرَ الْمُؤْمِنُ بِعَظِيمِ سُلْطَانِهِ، وَيَعْلَمَ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ مُطَّلِعٌ عَلَى سِرِّهِ وَإِعْلَانِهِ؛ لِأَنَّهُ مُهَيْمِنٌ عَلَى

<<  <  ج: ص:  >  >>