عَلَى الْوَجْهِ الْمُخْتَارِ عِنْدَ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ، مِنْ أَنَّهُمْ ضُعَفَاءُ الْإِيمَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، إِذْ يَكُونُ مَغْزَى قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ عَيْنَ مَغْزَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي جَوَابِهِمْ: إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ اعْتَذَرُوا عَنْ تَقْصِيرِهِمْ بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُمْ مِنْهُ شَيْءٌ لَمَا قُتِلُوا هُنَاكَ، يَعْنِي أَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ بِيَدِ اللهِ وَتَصَرُّفِ مَشِيئَتِهِ وَحْدَهُ، وَهَذَا عَيْنُ الْإِيمَانِ الَّذِي يُثَبِّتُهُ الْقُرْآنُ، فَكَيْفَ جَعَلَهُ مِنْ ظَنِّ الْجَاهِلِيَّةِ؟ وَنَقُولُ: إِنَّهُ - تَعَالَى - قَدْ بَيَّنَ لَنَا ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ
إِلَّا تَخْرُصُونَ [٦: ١٤٨] وَقَدْ قَالَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ: وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكُوا [٦: ١٠٧] وَهُوَ يُشْبِهُ قَوْلَهُ لِهَذِهِ الطَّائِفَةِ الَّتِي ظَنَّتْ مِثْلَ ظَنِّهِمْ: إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الَّذِي أَثْبَتَهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ هُوَ مِثْلُ الَّذِي أَنْكَرَهُ عَلَيْهِمْ وَسَمَّاهُ ظَنًّا لَا يُوثَقُ بِهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ الَّذِي لَا يُقْبَلُ فِيهِ إِلَّا الْعِلْمُ الْيَقِينُ. وَقَالَ فِي سُورَةِ يس: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [٣٦: ٤٧] فَقَدْ جَعَلَ تَبَرُّؤَ النَّاسِ مِنَ الْكَسْبِ وَالْعَمَلِ وَاعْتِذَارَهُمْ بِمَشِيئَةِ اللهِ وَتَفْوِيضَ الْأَمْرِ إِلَيْهِ مِنْ شَأْنِ الْمُشْرِكِينَ وَالْكُفَّارِ الَّذِينَ يَتَخَبَّطُونَ فِي دَيَاجِي الظَّنِّ، وَيَهِيمُونَ فِي أَوْدِيَةِ الضَّلَالِ مَعَ إِثْبَاتِهِ لِكَوْنِ الْأَمْرِ كُلِّهِ لِلَّهِ وَحُصُولِ كُلِّ شَيْءٍ بِمَشِيئَتِهِ. وَقَدْ نَظَرَ فِي كُلِّ طَرَفٍ مِنَ الطَّرَفَيْنِ مَنْ رَآهُ يُوَافِقُ مَذْهَبَهُ حَتَّى جَعَلَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ الْآيَةَ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا هِيَ عَيْنُ مَا عَلَيْهِ الْخِلَافُ بَيْنَ الْأَشَاعِرَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ فِي مَسْأَلَةِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَجَعَلَ الْحُجَّةَ فِيهَا لِلْأَشَاعِرَةِ.
وَتَحْرِيرُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ - تَعَالَى - بَيَّنَ لَنَا فِي كِتَابِهِ ثَلَاثَ حَقَائِقَ، وَبَيَّنَ لَنَا ضَلَالَ الَّذِينَ ضَلُّوا فِيهَا وَاحْتَجُّوا بِوَاحِدَةٍ عَلَى بُطْلَانِ الْأُخْرَى:
(الْحَقِيقَةُ الْأُولَى) أَنَّهُ - تَعَالَى - هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَبِمَشِيئَتِهِ يَجْرِي كُلُّ شَيْءٍ، فَلَا قَاهِرَ لَهُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ.
(الْحَقِيقَةُ الثَّانِيَةُ) أَنَّ خَلْقَهُ وَتَدْبِيرَهُ إِنَّمَا يَجْرِي بِحَسَبِ مَشِيئَتِهِ وَحِكْمَتِهِ عَلَى سُنَنٍ مُطَّرِدَةٍ وَمَقَادِيرَ مَعْلُومَةٍ، كَمَا أَشَرْنَا إِلَى ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ [٣: ١٣٧] وَفِي تَفْسِيرِ كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي تُذْكَرُ فِيهَا الْمَشِيئَةُ أَوِ السُّنَنُ الْإِلَهِيَّةُ.
(الْحَقِيقَةُ الثَّالِثَةُ) أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ سُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ وَقَدَرِهِ فِي تَدْبِيرِ عِبَادِهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ ذَا عِلْمٍ وَمَشِيئَةٍ وَإِرَادَةٍ وَقُدْرَةٍ، فَيَعْمَلُ بِقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ مَا يَرَى بِحَسَبِ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ عِلْمُهُ وَشُعُورُهُ أَنَّهُ خَيْرٌ لَهُ. وَالْآيَاتُ النَّاطِقَةُ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَعْمَلُ وَبِعَمَلِهِ تُنَاطُ سَعَادَتُهُ وَشَقَاوَتُهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute