للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ عَلَى مَنْ فُقِدَ مِنْ إِخْوَانِهِمْ، وَيَزِيدُهُمْ ضَعْفًا وَيَرِثُهُمْ نَدَمًا عَلَى تَمْكِينِهِمْ إِيَّاهُمْ مِنَ التَّعَرُّضِ لِمَا ظَنُّوهُ سَبَبًا ضَرُورِيًّا لِلْمَوْتِ، فَإِنَّكُمْ إِذَا كُنْتُمْ مِثْلَهُمْ فِي ذَلِكَ يُصِيبُكُمْ مِنَ الْحَسْرَةِ مِثْلَ مَا يُصِيبُهُمْ، وَتَضْعُفُونَ عَنِ الْقِتَالِ كَمَا يَضْعُفُونَ، فَلَا يَكُونُ لَكُمُ امْتِيَازٌ عَلَيْهِمْ بِالْبَصِيرَةِ النَّيِّرَةِ الَّتِي يَرَى صَاحِبُهَا أَنَّ الَّذِي وَقَعَ هُوَ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فَلَا يَتَحَسَّرُ عَلَيْهِ، وَلَا بِالْإِيمَانِ الَّذِي لَا يَزِيدُ ذَلِكَ صَاحِبَهُ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا.

وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ أَيْ وَالْحَقِيقَةُ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - يُحْيِي مَنْ يَشَاءُ بِمُقْتَضَى سُنَنِهِ فِي بَقَاءِ أَسْبَابِ الْحَيَاةِ وَإِنْ طَوَى بِالْأَسْفَارِ بِسَاطَ كُلِّ بَرٍّ، وَنَشَرَ شِرَاعَ كُلِّ بَحْرٍ، وَخَاضَ مَعَامِعَ الْحُرُوبِ، وَصَارَعَ الْأَهْوَالَ وَالْخُطُوبَ. وَيُمِيتُ مَنْ يَشَاءُ بِمُقْتَضَى سُنَنِهِ فِي أَسْبَابِ الْمَوْتِ وَإِنِ اعْتَصَمَ فِي الْحُصُونِ الْمُشَيَّدَةِ، وَحُرِسَ بِالْجُنُودِ الْمُجَنَّدَةِ، وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا تُكِنُّونَ فِي أَنْفُسِكُمْ مِنَ الِاعْتِقَادِ، وَمَا يُؤَثِّرُ فِي قُلُوبِكُمْ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَحْوَالِ، فَاحْرِصُوا عَلَى أَنْ يَكُونَ تَرْكُكُمْ لِأَقْوَالِ الْكُفَّارِ نَاشِئًا عَنْ طَهَارَةِ نُفُوسِكُمْ مِنْ وَسَاوِسِهِمْ.

وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَيْ إِنَّ الْحَيَاةَ وَالْمَمَاتَ بِيَدِ اللهِ - تَعَالَى - وَهُوَ مُمِدُّ الْمَوْجُودَاتِ كُلِّهَا بِمَا يَحْفَظُ وُجُودَهَا وَالْعَالَمِينَ بِحَيَاتِهِمْ وَمَوْتِهِمْ فَلَا يَلِيقُ بِالْعَاقِلِ أَنْ يَقُولَ لِمَنْ أَمَاتَهُ: لَوْ

كَانَ فِي مَكَانِ كَذَا لَمَا مَاتَ بَلْ كَانَتْ حَيَاتُهُ أَطُولَ (قَالَ) : وَهُنَاكَ عِلَّةٌ أُخْرَى مِنْ عِلَلِ النَّهْيِ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ الْقَوْلِ وَهِيَ مَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ حَظَّ الْحَيِّ مِنْ هَذِهِ الْحَيَاةِ هُوَ مَا يَجْمَعُهُ مِنَ الْمَالِ وَالْمَتَاعِ الَّذِي تَتَحَقَّقُ بِهِ شَهَوَاتُهُ وَحُظُوظُهُ، وَمَا يُلَاقِيهِ مَنْ يُقْتَلُ أَوْ يَمُوتُ فِي سَبِيلِ اللهِ مِنْ مَغْفِرَتِهِ - تَعَالَى - وَرَحْمَتِهِ، فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ جَمِيعِ مَا يَتَمَتَّعُ بِهِ فِي هَذِهِ الدَّارِ الْفَانِيَةِ، وَالْمَوْتُ فِي سَبِيلِ اللهِ هُوَ الْمَوْتُ فِي أَيِّ عَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي يَعْمَلُهَا الْإِنْسَانُ لِلَّهِ، أَيْ سَبِيلِ الْبِرِّ وَالْخَيْرِ الَّتِي هَدَى اللهُ الْإِنْسَانَ إِلَيْهَا وَيَرْضَاهَا مِنْهُ. وَقَدْ يَمُوتُ الْإِنْسَانُ فِي أَثْنَاءِ الْحَرْبِ مِنَ التَّعَبِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَأْتِيهَا الْمُحَارِبُ فِي أَثْنَائِهَا، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنَ الْمَوْتِ فِي سَبِيلِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -.

أَقُولُ: وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ ; لِأَنَّ السِّيَاقَ فِي الْحَرْبِ، وَلِذَلِكَ قَدَّمَ ذِكْرَ الْقَتْلِ عَلَى الْمَوْتِ، فَإِنَّ الْقَتْلَ هُوَ الَّذِي يَقَعُ كَثِيرًا فِي الْحَرْبِ وَالْمَوْتُ يَكُونُ فِيهَا أَقَلَّ، فَذَكَرَهُ تَبَعًا بِخِلَافِ الْآيَةِ الْآتِيَةِ.

وَحَاصِلُ مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ رَبَّ الْعِزَّةِ يُخْبِرُنَا مُؤَكِّدًا خَبَرَهُ بِالْقَسَمِ بِأَنَّ مَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِهِ أَوْ يَمُوتُ فَإِنَّ مَا يَنْتَظِرُهُ مِنْ مَغْفِرَةٍ تَمْحُو مَا كَانَ مِنْ ذُنُوبِهِ وَسَيِّئَاتِهِ وَرَحْمَةٍ تَرْفَعُ دَرَجَاتِهِ خَيْرٌ لَهُ مِمَّا يَجْمَعُ الَّذِينَ يَحْرِصُونَ عَلَى الْحَيَاةِ لِيَتَمَتَّعُوا بِالشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ، إِذْ لَا يَلِيقُ بِالْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُؤْثِرُونَ مَغْفِرَةَ اللهِ وَرَحْمَتَهُ الدَّائِمَةَ عَلَى الْحُظُوظِ الْفَانِيَةِ أَنْ يَتَحَسَّرُوا عَلَى مَنْ يُقْتَلُ مِنْهُمْ

<<  <  ج: ص:  >  >>