مُلْكِهِمْ وَجَرَى سَائِرُ مُلُوكِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ذَلِكَ وَجَارَاهُمْ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الدِّينِ بَعْدَ مَا كَانَ لِعُلَمَاءِ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنَ الْإِنْكَارِ الشَّدِيدِ عَلَى الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ فِي زَمَنِ بَنِي أُمَيَّةَ وَأَوَائِلِ زَمَنِ الْعَبَّاسِيِّينَ، فَظَنَّ الْبَعِيدُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَا الْقَرِيبُ مِنْهُمْ أَنَّ السُّلْطَةَ فِي الْإِسْلَامِ اسْتِبْدَادِيَّةٌ شَخْصِيَّةٌ، وَأَنَّ الشُّورَى مَحْمَدَةٌ اخْتِيَارِيَّةٌ، فَيَاللهِ الْعَجَبَ: أَيُصَرِّحُ كِتَابُ اللهِ
بِأَنَّ الْأَمْرَ شُورَى فَيَجْعَلُ ذَلِكَ أَمْرًا ثَابِتًا مُقَرَّرًا، وَيَأْمُرُ نَبِيَّهُ - الْمَعْصُومَ مِنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى فِي سِيَاسَتِهِ وَحُكْمِهِ - بِأَنْ يَسْتَشِيرَ حَتَّى بَعْدَ أَنْ كَانَ مَا كَانَ مَنْ خَطَأِ مَنْ غَلَبَ رَأْيُهُمْ فِي الشُّورَى يَوْمَ أُحُدٍ، ثُمَّ يَتْرُكُ الْمُسْلِمُونَ الشُّورَى لَا يُطَالِبُونَ بِهَا وَهُمُ الْمُخَاطَبُونَ فِي الْقُرْآنِ بِالْأُمُورِ الْعَامَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِرَارًا كَثِيرَةً؟ هَذَا، وَقَدْ بَلَغَ مُلُكُوهُمْ مِنَ الظُّلْمِ وَالِاسْتِبْدَادِ مَبْلَغًا صَارُوا فِيهِ عَارًا عَلَى الْإِسْلَامِ بَلْ عَلَى الْبَشَرِ كُلِّهِ، إِلَّا مَنْ يَتَبَرَّأُ مِنْهُمْ، وَيَبْذُلُ جُهْدَهُ فِي رَاحَةِ الْعَالِمِ مِنْ شَرِّهِمْ. وَسَنَعُودُ إِلَى مَوْضُوعِ الْحُكُومَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى أُولِي الْأَمْرِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ إِنْ شَاءَ اللهُ - تَعَالَى -.
قَالَ - تَعَالَى - بَعْدَ أَمْرِ نَبِيِّهِ بِالْمُشَاوَرَةِ: فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ أَيْ فَإِذَا عَزَمْتَ بَعْدَ الْمُشَاوَرَةِ فِي الْأَمْرِ عَلَى إِمْضَاءِ مَا تُرَجِّحُهُ الشُّورَى وَأَعْدَدْتَ لَهُ عُدَّتَهُ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فِي إِمْضَائِهِ، وَكُنْ وَاثِقًا بِمَعُونَتِهِ وَتَأْيِيدِهِ لَكَ فِيهِ، وَلَا تَتَّكِلْ عَلَى حَوْلِكَ وَقُوَّتِكَ، بَلِ اعْلَمْ أَنَّ وَرَاءَ مَا أَتَيْتَهُ وَمَا أُوتِيتَهُ قُوَّةً أَعْلَى وَأَكْمَلَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ بِهَا الثِّقَةُ وَعَلَيْهَا الْمُعَوَّلُ، وَإِلَيْهَا اللُّجْأُ إِذَا تَقَطَّعَتِ الْأَسْبَابُ وَأُغْلِقَتِ الْأَبْوَابُ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ الْعَزْمَ عَلَى الْفِعْلِ وَإِنْ كَانَ يَكُونُ بَعْدَ الْفِكْرِ وَإِحْكَامِ الرَّأْيِ وَالْمُشَاوَرَةِ وَأَخْذِ الْأُهْبَةِ، فَذَلِكَ كُلُّهُ لَا يَكْفِي لِلنَّجَاحِ إِلَّا بِمَعُونَةِ اللهِ وَتَوْفِيقِهِ ; لِأَنَّ الْمَوَانِعَ الْخَارِجِيَّةَ لَهُ وَالْعَوَائِقَ دُونَهُ لَا يُحِيطُ بِهَا إِلَّا اللهُ - تَعَالَى -، فَلَا بُدَّ لِلْمُؤْمِنِ مِنَ الِاتِّكَالِ عَلَيْهِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَى حَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ.
إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ عَلَى حَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ مَعَ الْعَمَلِ فِي الْأَسْبَابِ بِسُنَّتِهِ، أَقُولُ: وَمَنْ أَحَبَّهُ اللهُ عَصَمَهُ مِنَ الْغُرُورِ بِاسْتِعْدَادِهِ، وَالرُّكُونِ إِلَى عُدَّتِهِ وَعَتَادِهِ، وَالْبَطَرِ الَّذِي يَصْرِفُهُ عَنِ النَّظَرِ فِيمَا يَعْرِضُ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى لَا يُقَدِّرَهُ قَدْرَهُ وَلَا يُحْكِمَ فِيهِ أَمْرَهُ، فَبَدَلًا مِنْ أَنْ يَكُونَ نَظَرُهُ فِي الْأُمُورِ بِعَيْنِ الْعُجْبِ وَالْغُرُورِ وَاسْتِمَاعُهُ لِأَنْبَائِهَا بِأُذُنِ الْغَفْلَةِ وَالِازْدِرَاءِ وَمُبَاشَرَتُهُ لَهَا بَيَدِ التَّهَاوُنِ يُلْقِيَ السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ، وَيَنْظُرُ بِعَيْنِ الْعِبْرَةِ فَبَصَرُهُ حِينَئِذٍ حَدِيدٌ، وَيَبْطِشُ بِيَدِ الْحَزْمِ فَبَطْشُهُ قَوِيٌّ شَدِيدٌ ; ذَلِكَ بِأَنَّهُ يَسْمَعُ وَيُبْصِرُ وَيَعْمَلُ لِلْحَقِّ لَا لِلْبَاطِلِ الَّذِي يُزَيِّنُهُ الْهَوَى وَيُدْلِي بِهِ الْغُرُورُ، فَيَكُونُ مِصْدَاقًا لِلْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: " فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا ".
الْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي وُجُوبِ إِمْضَاءِ الْعَزِيمَةِ الْمُسْتَكْمِلَةِ لِشُرُوطِهَا - وَأَهَمُّهَا فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ حَرْبِيَّةً كَانَتْ أَوْ سِيَاسِيَّةً أَوْ إِدَارِيَّةً الْمُشَاوَرَةُ - وَذَلِكَ أَنَّ نَقْضَ الْعَزِيمَةِ ضَعْفٌ فِي النَّفْسِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute