للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَأَسْنَدَ إِلَيْهِمُ الصَّبْرَ وَالتَّوَكُّلَ، وَقَالَ لِخَاتَمِ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ: فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ [٧٣: ٩، ١٠] كَمَا قَالَ لَهُ: وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا [٣٣: ٤٨] فَهَاهُنَا قَرَنَ أَمْرَهُ بِالتَّوَكُّلِ بِنَهْيهِ عَنِ الْعَمَلِ بِقَوْلِ مَنْ لَا يُوثَقُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ يَغُشُّ وَلَا يَنْصَحُ، كَمَا أَنَّهُ قَرَنَهُ بِالْأَمْرِ بِالْمُشَاوَرَةِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا أَعْنِي قَوْلَهُ: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ وَكُلُّ ذَلِكَ مِنِ اتِّخَاذِ الْأَسْبَابِ سَلْبًا وَإِيجَابًا.

وَجَاءَ ذِكْرُ التَّوَكُّلِ فِي مَقَامِ ذِكْرِ الْحِرْمَانِ مِنَ الرِّزْقِ أَوْ مِنْ سَعَتِهِ، كَمَا جَاءَ فِي مَقَامِ الصَّبْرِ عَلَى إِيذَاءِ الْمُعْتَدِينَ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ

مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [٦٥: ٢، ٣] وَقَوْلِهِ فِي مَقَامِ وُجُوبِ نَبْذِ الِاغْتِرَارِ بِسَعَةِ الرِّزْقِ خَشْيَةَ الْغَفْلَةِ عَنِ الْآخِرَةِ: فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [٤٢: ٦٣] وَحَسْبُنَا هَذِهِ الْآيَاتِ فِي هِدَايَةِ الْقُرْآنِ وَتَحْقِيقِهِ فِي مَقَامِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَسْبَابِ وَالتَّوَكُّلِ، وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الشَّرِيفَةُ فَأَصَحُّ مَا وَرَدَ فِي التَّوَكُّلِ مِنْهَا حَدِيثُ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا، وَقَدْ رُوِيَ بِعِدَّةِ أَلْفَاظٍ مِنْهَا: يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ، هُمُ الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ وَلَا يَكْتَوُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مَعًا عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَالْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ خَبَّابٍ، وَكَذَا الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ: (وَلَا يَتَطَيَّرُونَ) : (وَلَا يَعْتَافُونَ) ذَكَرَهُ فِي كَنْزِ الْعُمَّالِ. وَأَنْتَ تَرَى أَنَّهُ قَرَنَ التَّوَكُّلَ بِتَرْكِ الْأَعْمَالِ الْوَهْمِيَّةِ دُونَ غَيْرِهَا، فَهُوَ لَمْ يَنْفِ مِنَ الْأَعْمَالِ إِلَّا الِاسْتِشْفَاءَ بِالرُّقْيَةِ، وَهِيَ لَيْسَتْ مِنَ الْأَسْبَابِ الْحَقِيقِيَّةِ لِلشِّفَاءِ، وَإِنَّمَا يَطْلُبُهَا طُلَّابُهَا عِنْدَ الْجَهْلِ بِالْأَسْبَابِ وَالْعَجْزِ عَنْهَا عَلَى أَنَّهَا مِنَ الْمُؤَثِّرَاتِ الْغَيْبِيَّةِ، وَإِنَّمَا الْمَطْلُوبُ شَرْعًا وَطَبْعًا وَنَقْلًا وَعَقْلًا أَنْ يُطْلَبَ الشَّيْءُ مِنْ سَبَبِهِ الْحَقِيقِيِّ الَّذِي يَسْتَوِي فِيهِ كُلُّ مَنْ تَعَاطَاهُ، وَإِلَّا التَّطَيُّرُ وَهُوَ التَّيَمُّنُ وَالتَّشَاؤُمُ بِحَرَكَاتِ الطَّيْرِ وَنَحْوِهِ، الِاعْتِيَافُ وَهُوَ: التَّفَاؤُلُ وَالتَّشَاؤُمُ بِالْأَلْفَاظِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:

أَلَا قَدْ هَاجَنِي فَازْدَدْتُ وِجْدَا ... بُكَاءُ حَمَامَتَيْنِ تَجَاوَبَانِ

تَجَاوَبَتَا بِلَحْنٍ أَعْجَمِيٍّ ... عَلَى غُصْنَيْنِ مِنْ غَرَبٍ وَبَانِ

إِلَى أَنْ قَالَ:

فَكَانَ الْبَانُ أَنْ بَانَتْ سُلَيْمَى ... وَفِي الْغَرَبِ اغْتِرَابٌ غَيْرُ دَانِ

وَالطِّيرَةُ وَالْعِيَافَةُ مِنْ سُنَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي نَسَخَتْهَا السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ ; لِأَنَّهَا مِنْ مُفْسِدَاتِ الْفِطْرَةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>