للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَهْلَهُ وَعِيَالَهُ وَلَا يَتْرُكُ الْعَمَلَ. قَالَ: وَسُئِلَ أَبِي - وَأَنَا شَاهِدٌ - عَنْ قَوْمٍ لَا يَعْمَلُونَ، وَيَقُولُونَ: نَحْنُ مُتَوَكِّلُونَ، فَقَالَ: هَؤُلَاءِ مُبْتَدِعَةٌ. قَالَ الْجَلَالُ رَاوِي مَا ذُكِرَ: وَأَخْبَرَنِي الْمَرْوَزِيُّ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي عَبْدِ اللهِ: إِنَّ ابْنَ عُيَيْنَةَ كَانَ يَقُولُ: هُمْ مُبْتَدِعَةٌ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: هَؤُلَاءِ قَوْمُ سُوءٍ يُرِيدُونَ تَعْطِيلَ الدُّنْيَا. وَرُوِيَ عَنْهُ غَيْرُ ذَلِكَ، وَلَا سِيَّمَا فِي الْحَثِّ عَلَى الْكَسْبِ وَعَدَمِ تَوَقُّعِ الصِّلَةِ وَالنَّوَالِ.

وَقَالَ أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بْنُ مُسْلِمٍ الْحَدَّادُ شَيْخُ الْجُنَيْدِ فِي التَّصَوُّفِ: أَخْفَيْتُ التَّوَكُّلَ عِشْرِينَ سَنَةً وَمَا فَارَقْتُ السُّوقَ، كُنْتُ أَكْتَسِبُ فِي كُلِّ يَوْمٍ دِينَارًا وَلَا أُبَيِّتُ مِنْهُ دَانِقًا، وَلَا أَسْتَرِيحُ مِنْهُ إِلَى قِيرَاطٍ أَدْخُلُ بِهِ الْحَمَّامَ. وَقَالَ الْغَزَّالِيُّ: الْخُرُوجُ عَنْ سُنَّةِ اللهِ لَيْسَ شَرْطًا فِي التَّوَكُّلِ، وَأَحْفَظُ هَذِهِ الْعِبَارَةَ عَنْهُ أَوْ عَنْ غَيْرِهِ بِلَفْظِ: " لَيْسَ مِنَ التَّوَكُّلِ الْخُرُوجُ عَلَى سُنَّةِ اللهِ - تَعَالَى - أَصْلًا " وَهَذِهِ أَحْسَنُ وَأَصَحُّ. وَقَالَ فِي بَيَانِ أَعْمَالِ الْمُتَوَكِّلِينَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَنِ الْأَسْبَابِ الْمَقْطُوعِ بِهَا: " وَذَلِكَ مِثْلُ الْأَسْبَابِ الَّتِي ارْتَبَطَتِ الْمُسَبِّبَاتُ بِهَا بِتَقْدِيرِ اللهِ وَمَشِيئَتِهِ ارْتِبَاطًا مُطَّرِدًا لَا يَخْتَلِفُ، كَمَا أَنَّ الطَّعَامَ إِذَا كَانَ مَوْضُوعًا بَيْنَ يَدَيْكَ وَأَنْتَ جَائِعٌ مُحْتَاجٌ وَلَكِنَّكَ لَسْتَ تَمُدُّ الْيَدَ إِلَيْهِ وَتَقُولُ: أَنَا مُتَوَكِّلٌ، وَشَرْطُ التَّوَكُّلِ تَرْكُ السَّعْيِ، وَمَدُّ الْيَدِ إِلَيْهِ سَعْيٌ وَحَرَكَةٌ، وَكَذَلِكَ مَضْغُهُ بِالْأَسْنَانِ وَابْتِلَاعُهُ بِإِطْبَاقِ أَعَالِي الْحَنَكِ عَلَى أَسَافِلِهِ فَهَذَا جُنُونٌ مَحْضٌ وَلَيْسَ مِنَ التَّوَكُّلِ فِي شَيْءٍ. ثُمَّ قَالَ: وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ تَزْرَعِ الْأَرْضَ وَطَمِعْتَ فِي أَنْ يَخْلُقَ اللهُ - تَعَالَى - نَبَاتًا مِنْ غَيْرِ بَذْرٍ أَوْ تَلِدَ زَوْجَتُكَ مِنْ غَيْرِ وِقَاعٍ كَمَا وُلِدَتْ مَرْيَمُ عَلَيْهَا السَّلَامُ فَكُلُّ ذَلِكَ جُنُونٌ، وَأَمْثَالُ هَذَا مِمَّا يَكْثُرُ وَلَا يُمْكِنُ إِحْصَاؤُهُ " ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْأَسْبَابَ الَّتِي لَا تُعَدُّ قَطْعِيَّةٌ مُطَّرِدَةٌ كَالتَّزَوُّدِ لِلسَّفَرِ لَا يُشْتَرَطُ تَرْكُهَا فِي التَّوَكُّلِ، وَلَكِنَّهُ يَجُوزُ وَيُعَدُّ مِنْ أَعْلَى التَّوَكُّلِ، وَكَلَامُهُ فِي هَذَا الْبَابِ وَأَمْثَالُهُ كَالزُّهْدِ وَالْفَقْرِ لَا يَسْلَمُ مِنْ نَقْدٍ وَخَطَأٍ ; لِمُبَالَغَتِهِ فِي الْمَيْلِ إِلَى الِانْقِطَاعِ عَنِ الدُّنْيَا وَالْإِقْبَالِ عَلَى الْآخِرَةِ: وَلَنْ يُشَادَّ هَذَا الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ إِنْكَارِ الْقُرْآنِ عَلَى مَنْ أَرَادُوا أَنْ يَحُجُّوا مِنْ غَيْرِ زَادٍ. وَسَنُوَفِّي هَذَا الْمَقَامَ حَقَّهُ فِي تَفْسِيرِ: لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ [٥: ٧٧] وَلِغَلَبَةِ هَذَا الْمَيْلِ عَلَى أَبِي حَامِدٍ (رَحِمَهُ اللهُ) رَاجَ عِنْدَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ

الْوَاهِيَةِ وَالْمَوْضُوعَةِ، بَلْ رَاجَ عِنْدَهُ مَا دُونَهَا مِنْ كَلَامِ جَهَلَةِ الْمُتَصَوِّفَةِ وَتَخَيُّلَاتِ الشُّعَرَاءِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:

جَرَى قَلَمُ الْقَضَاءِ بِمَا يَكُونُ ... فَسِيَّانَ التَّحَرُّكُ وَالسُّكُونُ

جُنُونٌ مِنْكَ أَنْ تَسْعَى لِرِزْقٍ ... وَيُرْزَقُ فِي غِشَاوَتِهِ الْجَنِينُ

فَانْظُرْ كَيْفَ يُنْسِي الْإِنْسَانَ مَيْلُهُ وَحُبُّهُ لِلشَّيْءِ عِلْمَهُ وَفِقْهَهُ حَتَّى يَسْتَحْسِنَ مَا يُخَالِفُهُمَا، وَإِلَّا فَإِنَّ جَهَالَةَ هَذَا الشَّاعِرِ لَا تَخْفَى عَلَى مَنْ دُونَ أَبِي حَامِدٍ عِلْمًا وَفِقْهًا ; فَإِنَّ جَرَيَانَ قَلَمِ

<<  <  ج: ص:  >  >>