وَتَكُونُ الْآيَاتُ مُتَأَخِّرَةَ النُّزُولِ عَمَّا قَبْلَهَا. وَذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي زَادِ الْمَعَادِ وَالْحَلَبِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ إِلَى بَدْرٍ الْمَوْعِدِ فِي أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَيَجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِأَنْ يَكُونَ خَرَجَ أَوَّلًا بِالسَّبْعِينَ ثُمَّ تَبِعَهُ الْبَاقُونَ.
فَزَادَهُمْ إِيمَانًا أَيْ فَزَادَهُمْ قَوْلُ النَّاسِ لَهُمْ إِيمَانًا بِاللهِ وَثِقَةً بِهِ مِنْ حَيْثُ خَشُوهُ وَلَمْ يَخْشَوُا النَّاسَ الَّذِينَ خُوِّفُوا مِنْهُمْ بِأَنَّهُمْ جَمَعُوا لَهُمُ الْجُمُوعَ وَاعْتَمَدُوا عَلَى نَصْرِهِ وَمَعُونَتِهِ وَإِنْ قَلَّ عَدَدُهُمْ وَضَعُفَ جَلَدُهُمْ، فَإِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْقَوِيُّ وَذَلِكَ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا جَاءَ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْآيَتَيْنِ التَّالِيَتَيْنِ، وَكَانَ مِنْ قُوَّةِ إِيمَانِهِمْ وَزِيَادَتِهِ أَنْ أَقْدَمُوا - وَهُمْ عَدَدٌ قَلِيلٌ قَدْ أُثْخِنُوا بِالْجِرَاحِ - عَلَى مُحَارَبَةِ الْجَيْشِ الْكَبِيرِ، فَالزِّيَادَةُ كَانَتْ فِي الْإِذْعَانِ النَّفْسِيِّ، وَالشُّعُورِ الْقَلْبِيِّ، وَتَبِعَهَا الزِّيَادَةُ فِي الْعَمَلِ، بَعْدَ ذَلِكَ الْقَوْلِ الدَّالِّ عَلَى مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ النَّفْسُ مِنَ الْيَقِينِ بِوَعْدِ اللهِ وَوَعِيدِهِ، وَالشُّعُورِ بِعِزَّتِهِ وَسُلْطَانِهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ حَوْلٌ وَلَا قُوَّةٌ عَلَى تِلْكَ الِاسْتِجَابَةِ وَالْإِقْدَامِ عَلَى مَا كَادَ يَكُونُ وَرَاءَ حُدُودِ الْإِمْكَانِ، فَمَنْ يَقُولُ إِنَّ الْإِيمَانَ النَّفْسِيَّ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ فَقَدْ نَظَرَ إِلَى الِاصْطِلَاحَاتِ اللَّفْظِيَّةِ لَا إِلَى نَفْسِهِ فِي إِدْرَاكِهَا وَشُعُورِهَا وَقُوَّتِهَا فِي الْإِذْعَانِ وَضَعْفِهَا.
قَالُوا: إِنَّ التَّصْدِيقَ لَا يُعْتَدُّ بِهِ وَيَكُونُ إِيمَانًا صَحِيحًا إِلَّا إِذَا وَصَلَ إِلَى دَرَجَةِ الْيَقِينِ، فَإِذَا نَزَلَ عَنْ مَرْتَبَةِ الْيَقِينِ كَانَ ظَنًّا أَوْ شَكًّا. وَلَيْسَ الظَّنُّ إِيمَانًا يُعْتَدُّ بِهِ، وَالشَّكُّ كُفْرٌ صَرِيحٌ وَنَقُولُ: إِنَّ الظَّنَّ الَّذِي لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا وَلَا يُعَدُّ إِيمَانًا صَحِيحًا هُوَ مَا لُوحِظَ فِيهِ جَوَازُ وُقُوعِ الطَّرَفِ الْمُخَالِفِ، أَيْ مَا لُوحِظَ فِيهِ طَرَفَانِ مُتَقَابِلَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا لِأَمْرٍ ثَابِتٍ وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ يَحْتَمِلُ احْتِمَالًا ضَعِيفًا أَلَّا يَكُونَ ثَابِتًا، فَإِنْ جَزَمَ
الذِّهْنُ بِأَنَّهُ ثَابِتٌ فَلَمْ يُتَصَوَّرِ الطَّرَفُ الْمُخَالِفُ - وَهُوَ عَدَمُ الثُّبُوتِ - كَانَ جَزْمُهُ هَذَا إِيمَانًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَاشِئًا عَنْ بُرْهَانٍ مُؤَلَّفٍ مِنَ الْمُقَدِّمَاتِ الْيَقِينِيَّةِ فِي عُرْفِ عُلَمَاءِ الْمَنْطِقِ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ أَوْ غَيْرِ طَرِيقَتِهِمْ، وَلَا مُلَاحَظًا فِيهِ اسْتِحَالَةُ الطَّرَفِ الْمُخَالِفِ. وَأَكْثَرُ الْمُؤْمِنِينَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ مِنَ الْإِيمَانِ وَيَصِحُّ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى أَهْلِهَا لَفْظُ " الْمُوقِنِينَ ".
وَلَوْ كَانَ الْإِيمَانُ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِبُرْهَانٍ مَنْطِقِيٍّ عَلَى إِثْبَاتِ قَضَايَاهُ وَاسْتِحَالَةِ ضِدِّهَا لَمَا تُصُوِّرَ أَنْ يَرْتَدَّ أَحَدٌ عَنِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ دُخُولِهِ فِيهِ، لِأَنَّ الْيَقِينَ بِهَذَا الْمَعْنَى لَا يُمْكِنُ الرُّجُوعُ عَنْهُ وَإِنْ أَمْكَنَ مُكَابَرَتُهُ وَمُجَاحَدَتُهُ بِاللِّسَانِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: " الرُّجُوعُ عَنِ الْحَقِّ بَعْدَ الْيَقِينِ فِيهِ كَالْيَقِينِ فِي الْعِلْمِ كِلَاهُمَا قَلِيلٌ فِي النَّاسِ " يَعْنِي بِذَلِكَ الْيَقِينَ الْمَنْطِقِيَّ الَّذِي تَنْتَهِي مُقَدِّمَاتُهُ إِلَى الْبَدِيهِيَّاتِ. وَلَكِنَّ الرِّدَّةَ ثَابِتَةٌ نَقْلًا وَوُقُوعًا. قَالَ - تَعَالَى -: مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ [١٦: ١٠٦] وَقَالَ - تَعَالَى -: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا [٤: ١٣٧]
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute