فِيهَا ظَاهِرٌ. وَأَقُولُ: إِنَّ الْوَجْهَ فِي وَصْلِ هَذِهِ الْآيَاتِ بِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّ الْكَلَامَ قَبْلَهَا فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ وَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ شَأْنِ الْمُنَافِقِينَ، وَكَانَ الْكَلَامُ قَبْلَهَا فِي حَالِ الْيَهُودِ، وَقَبْلَهَا فِي حَالِ النَّصَارَى مَعَ الْإِسْلَامِ بِمُنَاسَبَةِ الْكَلَامِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ فِي التَّوْحِيدِ، وَالْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَاخْتِلَافِ النَّاسِ فِيهِ، فَلَمَّا انْتَهَى مَا أَرَادَ اللهُ بَيَانَهُ فِي هَذَا السِّيَاقِ - وَمِنْهُ أَنَّهُ أَيَّدَ دِينَهُ وَأَعَزَّ حِزْبَهُ حَتَّى إِنَّهُ جَعَلَ خَطَأَهُمْ فِي الْحَرْبِ مُفِيدًا لَهُمْ - عَادَ إِلَى بَيَانِ حَالِ الْيَهُودِ، وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ:
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ قَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَمَّا بَالَغَ فِي التَّحْرِيضِ عَلَى بَذْلِ النَّفْسِ فِي الْجِهَادِ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ شَرَعَ هَاهُنَا فِي التَّحْرِيضِ عَلَى بَذْلِ الْمَالِ فِي الْجِهَادِ، وَبَيَّنَ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ لِمَنْ يَبْخَلُ بِبَذْلِ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ. اهـ.
وَحَسْبُكَ مَا عَلِمْتَ مِنْ وَجْهِ اتِّصَالِ الْآيَاتِ كُلِّهَا بِمَا قَبْلَهَا.
قَرَأَ حَمْزَةُ: " تَحْسَبَنَّ " بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ لِكُلِّ حَاسِبٍ، وَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيرٌ، أَيْ لَا تَحْسَبَنَّ بُخْلَ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: " يَحْسَبَنَّ " بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ، وَالتَّقْدِيرُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِكَذَا بُخْلَهُمْ خَيْرًا لَهُمْ. أَوْ لَا يَحْسَبَنَّ أَحَدٌ، أَوْ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُخْلَ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِكَذَا خَيْرًا لَهُمْ. وَإِعَادَةُ الضَّمِيرِ عَلَى مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ لِدَلَالَةِ فِعْلِهِ، أَوْ وَصَفٍ مِنْهُ، عَلَيْهِ كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [٥: ٨] أَيِ الْعَدْلُ وَقَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا نَهَى السَّفِيهَ جَرَى إِلَيْهِ ... وَخَالَفَ، وَالسَّفِيهُ إِلَى خِلَافِ
أَيْ إِذَا نَهَى عَنِ السَّفَهِ جَرَى إِلَيْهِ، وَكَانَ النَّهْيُ إِغْرَاءً لَهُ بِهِ. وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ:
هُمُ الْمُلُوكُ وَأَبْنَاءُ الْمُلُوكِ ... هُمُ وَالْآخِذُونَ بِهِ وَالسَّادَةُ الْأُوَلُ
قَالُوا: وَالْآخِذُونَ بِهِ، أَيْ بِالْمُلْكِ.
أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ كَتَمُوا صِفَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنُبُوَّتَهُ، فَالْبُخْلُ عَلَى هَذَا هُوَ الْبُخْلُ بِالْعِلْمِ، وَبَيَانِ الْحَقِّ. وَرُوِيَ عَنِ الصَّادِقِ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالسُّدِّيِّ، وَغَيْرِهِمْ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مَانِعِي الزَّكَاةِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ: الْمَالُ، وَأَنَّ الْبُخْلَ بِهِ هُوَ الْبُخْلُ بِالصَّدَقَةِ الْمَفْرُوضَةِ فِيهِ، وَعَدَمُ التَّصْرِيحِ بِذَلِكَ مِنْ ضُرُوبِ إِيجَازِ الْقُرْآنِ، فَكَثِيرًا مَا يُتْرَكُ التَّصْرِيحُ بِالْقَوْلِ لِأَنَّهُ مَفْهُومٌ مِنَ السِّيَاقِ، وَالْقَرَائِنُ دَالَّةٌ عَلَيْهِ، وَاللَّبْسُ مَأْمُونٌ، فَلَا يَخْطُرُ بِبَالِ أَحَدٍ أَنَّ الْوَعِيدَ هُوَ عَلَى الْبُخْلِ بِجَمِيعِ مَا يَمْلِكُ الْإِنْسَانُ مِنْ فَضْلِ رَبِّهِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ اللهَ أَبَاحَ لَنَا الطَّيِّبَاتِ، وَالزِّينَةَ فِي نَصِّ كِتَابِهِ، وَالْعَقْلُ يَجْزِمُ أَيْضًا بِأَنَّ اللهَ لَا يُكَلِّفُ النَّاسَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute